عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي ﷺقال: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ،قَالُوا: يَارَسُولَ اللَّهِ, مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا،قَالَ: فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ, فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَر» متفق عليه.
يحث هذا الحديث الشريف على ضرورة الالتزام بآداب الطريق التي غابت عن تربيتنا وتصرفاتنا اليومية، ونتيجة عدم امتثال كثير من الناس لأخلاق الطريق؛ فإنه لا زال يتخبط في مصائب اجتماعية كثيرة على رأسها ظاهرة حوادث السير التي تخلف كل يوم خسائر بشرية ومادية كبيرة؛ خاصة في بداية العطل الدينية والوطنية ونهايتها حيث تزدحم خلالها الطرقات، وتكثر فيها هفوات السائقين. فما هي آثار التزام آداب الطريق؟ وكيف تساهم هذه الأخلاق في التخفيف من العواقب الوخيمة لحوادث السير؟
أولا: التحذير من الجلوس في الطرقات وفوائده التربوية والاجتماعية:
قال : «إياكُم والجلوس فِي الطرقَات» هذا التحذير النبوي يهدف إلى ضبط علاقة المسلم بالمرافق العامة؛ لأن الأصل في الطريق أنها ليست للجلوس، بل الجلوس فيها لغير حاجة يعد من خوارم المروءة. فالشرع حريص على تربية المسلم على الأخلاق النبيلة التي تحقق الأخوة والمودة بين أفراد المجتمع عموما والمسلمين خصوصا؛ فالنهي جاء لسد ثغرة اجتماعية يتسرب منها النزاع والشقاق إلى المجتمع الإسلامي؛ قال ابن حجر: “علة النهي عن الجلوس في الطرق.. التعرض للفتن… إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن، والتعرض لحقوق الله وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته”(1). فالجلوس في الطريق يجلب مفاسد كثيرة على الفرد والمجتمع منها:
أــ الوقوع في الفتنة:فالجالس في الطريق عرضة لفتنة النساء، ومظنة للوقوع في مصايدهن، خاصة في عصرنا الذي انتشر فيه العري الفاحش الذي لا يسلم من سهامه حتى الملازم لبيته، فما بالك بالجالس على الطريق في زمن التبرج الفاضح.
ب ــ سوء الظن بالناس:والتجسس عليهم، وتتبع عوراتهم، وقد حرم الإسلام كل ذلك، والجلوس في الطريق مظنة الوقوع في كل ذلك، قال : «… لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته، ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته» (سنن أبي داود).
ج ــ ضياع الوقت:فالمسلم لا وقت له ليضيعه؛ فقد أوجب الله عليه أن يكون خليفته في الأرض بالتعمير والإصلاح، وبالعبادة والطاعة، والجلوس في الطريق يفوت عليه كل ذلك قال : «لَا تَزُولُ قَدَمَا عبد يوم القيامَة، حتى يُسْأَلَ عن أربع؛ عن عمره فيما أَفناه..» (سنن الترمذي).
وعليه؛ فهذا التحذير فيه مصلحة للجالس؛ إذ بجلوسه قد يعرض نفسه أو غيره لخطر حوادث السير؛ فقد تنحرف سيارة عن مسارها فتصادف الجالس بالقرب من الطريق فتضر به. كما أن الجالس قد يكون امرأة فاتنة تفقد السائق التركيز على الطريق ويقع أو يوقع غيره في حادثة مهلكة، أو لربما يقوم الجالس بحركات تؤثر على انتباه السائقين وغيرهم فيكون ذلك سببا لحادثة قاتلة. ولازلنا نعاني من المعتدين على حق الطريق، الذين لا يلتزمون الآداب الشرعية، والقوانين المنظمة لعمليات المرور.
بيد أن هذا المنع قد يرتفع عند وجود مصلحة مشروعة للجالس كما يفهم من حوار الصحابة للرسول ، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: «إذ أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه» قال ابن حجر: فلما ذكروا له ضرورتهم إلى ذلك لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا ومذاكرتهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس بالمحادثة في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة”(2) وهذا الجواز مشروط بإعطاء الطريق حقه؛ لكن واقعنا عكس ذلك. فاستهتار المسلمين بحق الطريق من طرف أصحاب المقاهي، والتجار مكشوف للعيان، وذلك راجع أساسا إلى نقص في تربية أولادنا على احترام آداب الطريق، لأننالا نمنعهم من اللعب فيها، ونغرس في نفوسهم أخلاقها؛ ولأننا لا نفعل ذلك فلا زلنا ندفع أرواح فلذات أكبادنا ثمنا لذلك التقصير.
ثانيا: الوقوف على حق الطريق في الإسلام يوقي من حوادث السير:
لما أمر الرسول المسلمين بإعطاء حق الطريق استفسروا عن هذا الحق، “قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» يعد التفريط في هذه الحقوق من الأسباب المساهمة في استفحال ظاهرة حوادث السير التي يعاني منها المجتمع الإسلامي، بل تكلفه خسائر كبيرة في الأرواح والأموال.
إن حوادث السير في المغرب, حسب ما أعلن عنه رئيس الحكومة في 7نونبر 2012, تخلف أكثر من 4000 قتيل، وما يفوق 14 مليار درهم من الخسائر المادية سنويا. ولا شك أن هذه التكلفة تؤثر سلبا على الحياة الإجتماعية والنمو الاقتصادي للبلاد؛ لهذا حث النبي المسلمين على التزام آداب الطريق وذكر منها:
1 ــ «غض البصر»: فالناس كثيرا ما يلقون بأنفسهم إلى التهلكة بسبب عدم غضهم للبصر، سواء الذي يقود المركبة، أو الذي يسير في الطريق، قال تعالى: قل للمؤْمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أَزْكَى لهم (النور: 30). قيل في سبب نزولها إن رجلا مر على عهد رسول الله في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنّه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنْب حائط ينظر إليها، إذا به يضرب بوجهه الحائط فشق أنفه. فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله فأعلمه أمري، فأتاه فقص عليه قصّته، فقال «هذا عقوبة ذنبك»(3).
فمن أسباب حوادث السير في عصرنا تبرج المرأة وإبداؤها لمفاتنها على الطرقات قصدا، مما يجعل أصحاب الأهواء ينشغلون بالنظر إليها ولا يركزون على الطريق أثناء السياقة، وقد حرم الإسلام أيضا التبرج فقال : «صنفان من أهل النار لم أرهما… ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» (صحيح مسلم).
2 ــ «كف الأذى»: ويدخل في مفهومه ما يلي:
فساد الطريق وعدم صلاحيته للاستعمال، فحوادث السير التي تقع بسبب فساد الطريق يتحمل وزرها من كان مسؤولا عن إصلاحها وصيانتها ولم يفعل، قال :«مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة» (صحيح مسلم). مفهومه المخالف أن محدث الأذى في الطريق مصيره العذاب. فكف الأذى يشمل توسيع الطريق، ووضع إشارات المرور فيها، وتهيئتها للاستعمال بيسر وسهولة، قال : «عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق..» (صحيح مسلم). وقد أدرك هذه الحقيقة عمر فقال: “والله لو تعثرت بغلة في العراق لأوشك أن يسألني عنها الله، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟” هذه بغلة فما بالنا بأرواح بشرية تزهق بسبب عدم تعبيد الطريق، أو بسبب الغش في صيانتها.
السرعة المفرطة أثناء قيادة السيارة؛ بسبب الغرور والإعجاب بالنفس، أو بسبب التهور والجهل بحقوق الطريق. وقد نهى الله عن ذلك كله، قال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (الإسراء: 37). وجعل من صفات عباد الرحمن المشي بهدوء ووقار دون تكبر أو تجبر، قال تعالى: وعباد الرحمانالذين يمشون علىالأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (الفرقان: 63). فمواجهة الجاهل بالقول الحسن أثناء استعمال الطريق خلق محمود.
3ــ «رد السلام»: وهو شعار للسلم والتسامح، هذا الخلق الطيب نفتقده في طريقنا، فرد السلام يعني أن المسلم على استعداد للانخراط في نظام السلم والأمان بقوله وفعله أثناء استعماله للطريق؛ فلا يعاند فيها مغرورا، ولا يعنف فيها مسيئا، بل يركز على علامات المرور ولا ينشغل بشيء آخر كالحديث في الهاتف، أو الانشغال بالمذياع، أو الاستماع إلى الأغاني، أو الأكل والشرب أثناء القيادة، فكل هذا يناقض تحقيق السلم في الطريق، ويؤثر على الانتباه والتركيز لقوله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه (الأحزاب: 4).
4 ـ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»: ومن المنكر الذي لا خلاف فيه شرب الخمر في الطرقات، أو أثناء استعمال الطريق، فالخمر مزيل للعقل، وقد حرمه الإسلام لما فيه من أضرار خطيرة، فكم من راجل مخمور قتل وهو يقطع الطريق ذهابا أو إيابا، وكم من سائق مخمور قتل نفسه وغيره من الأبرياء، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (المائدة:90). فمن حق الطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالركاب مأمورون بالتبليغ عن السائق المخمور، والسلطات المختصة لا يجوز لها شرعا التساهل مع السائقين المخمورين لأنهم وسيلة لقتل النفس دون وجه حق.
ذ. محمد البخاري
—————-
1 – فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة، ج 11 ص 12
2 – المصدر نفسه، ج 11، ص 12.
3 – الدر المنثور، السيوطي، دار الفكر، ج 6، ص 176