المدرسة الجديدة،وسؤال القيم


إن سؤال القيم، هو سؤال الأسئلة، ومسألة المسائل، وقضية القضايا، التي طُرحت في حلْبة الدراسات المعاصرة، وأُعيد هذا السؤال إلى حظيرة البحث والتداول؛ نظرا للتحولات الكبرى التي عرفها المجتمع المغربي، حيث تزحزحت صخرة القيم المجتمعية، واهتزت معها قيم المدرسة …

• ما حظ الأخلاق والقيم في الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم/2015- 2030؟

تُشكل التنشئة الاجتماعية والتربية على القيم في بُعديها الوطني والكوني وظيفة من وظائف المدرسة الخمس التي تبنتها الرؤية الجديدة لإصلاح التعليم. كما أن البعد القيمي وبمثابة الرافعة الثامنة عشرة من رافعات إصلاح المدرسة المغربية، ترسيخ مدرسة جديدة تنبني على الإنصاف والجودة والارتقاء؛ فأصبح ترسيخ مجتمع المواطنة والديمقراطية والمساواة خيارا أساسيا ضمن رؤية شمولية تصرّف البعد القيمي في مستويات متعددة نُجملها فيما يلي:

• مستوى النهج التربوي:

ارتأت التوجهات الجديدة لإصلاح المنظومة التربوية إدماج الممعالجة القيمية والحقوقية في صلب المناهج والبرامج والوسائط التعليمية مع العمل على التجسيد الفعلي ثقافة وسلوكا، وتأخذ بعين الاعتبار الثراء الثقافي والمكون القيمي في ربوع الوطن، كل ذلك من أجل حفظ الهُوية العربية الإسلامية والتدقيق في قيم الحوار والانفتاح، وقيم البيئة الكونية الإنسانية.

• على مستوى الفضاءات التربوية والآليات المؤسساتية:

يوصي المجلس الأعلى للتربية والتكوين، والبحث العلمي – في هذا الإطار – بتوفير فضاءات مدرسية تسعى إلى تجسيد وتنمية الممارسات الديمقراطية والمدنية داخل المؤسسات التعليمية، وتمكين المتعلمين من المشاركة الفعلية في تدبير الحياة المدرسية.

• على مستوى الفاعلين التربويين:

يُركَّز، في هذا الإطار، على إدماج تكوينات جديدة للفاعلين التربويين في مجال تدبير التربية على المواطنة وحقوق الإنسان وتعزيز الحس المدني، ثم مراعاة مقتضيات الديمقراطية والاستحقاق والتمييز الإيجابي ومبدأ المناصفة، في إسناد المسؤوليات المختلفة داخل المنظومة التربوية.

• على مستوى علاقة المدرسة بالمحيط:

تسعى الرؤية البعيدة المدى إلى مد الجسور في المحيط الخارجي الذي يتشكل من مجموعة من الفضاءات التي من شأنها أن تساهم في تحصين المدرسة الجديدة من السلوكات اللامدنية، وغرس قيم المواطنة، وتشجيع التواصل و”خلق” شراكات مع مختلف المؤسسات والجمعيات المدنية والحقوقية والإعلامية؛ للاستفادة من خبراتها.

إذا كانت هذه الرؤية القيمية قد مست كل الجوانب والأبعاد التي تشكل سبلا للتحكم في المنظومة القيمية؛ فسؤال التفعيل، والتنزيل لهذه الرؤية محتاج بإلحاح – خصوصا – في مجتمع عَرفت بنياتُه تحولا عميقا، ومنعطفا جديدا، اجتماعيا، ونفسيا، واقتصاديا، وعلميا، وثقافيا .. فهل المدرسة الجديدة تستجيب لشروط تطبيق هذه الرؤية في جوانبها القيمية؛ أم ستبقى مجرد خطاب نُخبوي يردد في المؤتمرات واللقاءات التربوية؟ !

• المدرسة الجديدة، والحاجة إلى المدرس القدوة:

كثيرا ما نتحدث عن القيم في الكتب المدرسية، من منطلق الغياب والحضور من خلال النصوص الحاملة لقيمنا العربية الإنسانية الإسلامية الكونية؛ لكن في حقيقة الأمر، إن الاقتصار على الكتب المدرسية في ترسيخ هذه القيم يبقى أمرا أحاذي النظرة إلى البعد القيمي في المدرسة المغربية، بل نحتاج إلى رؤية قيمية تنحو منحى الشمول وتمس مختلف الجوانب المدرسية. إن القيم المبثوثة داخل الكتب المدرسية، هي قيم ساكنة جامدة، وإن المدرس هو الذي يبعث فيها الحياة، حيث إن المتعلم المراهق يأخذ قيمه من مدرسه ويتخذه قدوة في الأخلاق والقيم؛ فهل مدرستنا الجديدة تتمتع بهذه القدوات التي تؤثر بقيمها وأخلاقها الإسلامية النبيلة في عقول وأحاسيس متعلمي المدرسة الجديدة؟

نعم؛ لقد أصبحت المدرسة – اليوم – بحاجة إلى التربية بالقدوة، وأن المجتمع المتماسك رهين بتماسك منظومته التربوية أخلاقيا، وعلميا، واجتماعيا، ونفسيا، ورقي المجتمع برقي مدرسته، وتزايد نخبه وقدواته التي تبني الإنسان وتحصنه من طوفان الأفكار الغريبة والقيم البعيدة عن منطق عقيدتنا، ومذهبنا، وإسلامنا، وإنسانيتنا.

إن المدرسة الجديدة بحاجة إلى قيم تظهر في الممارسة والسلوك؛ لأن المتعلمين يعيشون حالة من اللاتوازن، حيث يجدون فارقا كبيرا بين ما يتلقونه في المدرسة، وبين ما يتلقونه في محيطهم المجتمعي؛ لأننا أصبحنا نرى “تشجيع البرامج الفارغة، ولوك الكلام من أجل الكلام فقط في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والبصرية حتى يتعود الآباء، والأبناء على هدم ستار الحياء بينهم، لأنه إذا ضاع الحياء ضاعت الأخلاق، وبضياع الأخلاق تنحط الأمم، وتنحل الشعوب، وتتفسخ شخصيتها، وتذبل زهرتها، ويفوت شبابها، وتضعف قدرتها على إحياء الرجل الفاضل والمرأة الفاضلة” (1) .

هل يمكن للمتعلم أن يتبنى أخلاقه بدون قدوة ليتأسى بها، ويحذو حذوها؟ وكيف يحدد المتعلم مثله الأعلى الأخلاقي؟؛ يقول “شاييم بيرلمان”: “أحيانا يمكن للمرء أن ينشئ لنفسه قدوة خيالية أو يسند هذا الدور لشخصية روائية. فلمعرفة شخص من المهم أن نعرف قدوته؛ كما أن تربية شخص تعني، في جانب كبير منها، خلق الرغبة لديه في أن يشبه قدوته.” (2).

ويميز “شاييم بيرلمان” بين نوعين من القدوة “التربية بالقدوة باعتبارها مثلا أعلى وبالقدوة المضادة بوصفها منفرة، يأتلفان في تراتبيات كائنات يساهم طرفها الأسمى والأدنى معا في تحديد المعايير الأخلاقية”(2).

إن المدرسة الجديدة بحاجة إلى التربية بالاختيار، وعلى الاختيار، وليس التربية بالإكراه؛ لأن من شأن المتعلمين الذين يحسنون الاختيار أن يكونوا منفتحين على محيطهم، مقدرين لقيمهم التي تتناسب مع الدين والحياة؛ أما التربية بالإكراه فتنتج أُناسا متعثرين خاملين، يحترمون قيمهم في العلن، وينسلخون عنها في السر، ويتبرؤون منها أمام الآخر.

إن المدرسة –اليوم– بحاجة إلى ثقافة الانفتاح على القيم الجديدة؛ لأن مدرستنا تواجه -شئنا أم أبينا- صراعا بين قيم الأنا و قيم الآخر، بين سياسة الانفتاح وسياسة الانغلاق. إن ثقافة الوعظ والإرشاد في المؤسسة التعليمية لم تعد تجدي نفعا أمام ثقافة الصورة، وثقافة المعلوميات، وثقافة الهواتف الذكية. إن أقوى الأمم التي حافظت على قيمها، هي الأمم التي فتحت أبواب التجديد.

إن رهان المدرسة الجديدة رهان أخلاقي، ولن تنهض هذه المدرسة نهضة شجاعة متبصرة إلا بالقيم والأخلاق السامية.

إن المدرسة الجديدة بحاجة إلى ثقافة الصمود أمام التحولات المختلفة التي يعرفها المجتمع، ولن يتحقق هذا الصمود؛ إلا بالتشبث بالقيم التي تحصن الإنسان، وتحفظ كيانه من التلف والانهيار، وبقاء الإنسان ببقاء قيمه الروحية، والفنية والجمالية. فالمدرسة الجديدة “في حاجة إلى العقل الابتكاري المبدع الذي يبادر لاقتراح، وهذا لا يمكنه أن يحدث إذا بقيت المدرسة خارج التربية الجمالية، التي هي تجعل الإنسان، مؤهلا لابتكار الوجود نفسه، ولإعادة صياغته، ليس وفق صورة الله، كما يؤكد على ذلك الفكر الديني، بل على صورة الإنسان، ومكان إقامته مهما كان الزمن الذي يستغرقه هذا السكن، أو هذه الإقامة” (4).

إن المدرس اليوم لم يعد هو المدرس القدوة أمس، فمدرس اليوم تواجهه مهام جديدة، فرضتها التحولات التي عرفها المجتمع، فلم يعد دوره تقديم الشرح الجاهز، ويقرر مكان متعلميه، ويأمرهم بما يجب فعله، ويدقق معهم في نتائج منجزاتهم بشكل سلطوي خارجي من موقع المالك لسلطة المعرفة الكلية؛ ولم تعد قيمة المدرس في قيمة المحتويات التي يقدمها لمتعلميه فحسب؛ وإنما تتحدد قيمته بنوع العلاقة الإنسانية التي يبنيها مع متعلميه، وبقيمه التي يتبناها، ويستحضرها في ممارسته المهنية داخل الفصل الدراسي.

إن المهام التي تنتظر المدرس الجديد هي التنشيط، والتشجيع على الاكتشاف والبحث، وإنتاج متعلم يستفيد من أخطائه؛ إن المدرسة الجديدة بحاجة إلى مدرس جديد؛ إنه -باختصار- المدرس الباحث المثقف المشارك في بناء الإنسان على القيم الإنسانية. فـــــــــــــ “هل المدرس اليوم يعي التحولات التي طرأت على منظومة القيم وتبني الكونية منها، وخاصة منظومة حقوق الإنسان؟ هل استوعب حقا هذه الثقافة الجديدة؛ ثقافة المواطنة الحقة، وتمثل روحها، وسعى إلى بثها في تلامذته من أجل خلق المواطن الحديث والمعاصر والعارف بحقوقه وواجباته، بل متطلع إلى المواطنة الكونية، التي يسود فيها التسامح والاعتراف والقبول بالآخر والغير.”(5).

ففي ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عرفها المجتمع، أثرت كل هذه التحولات على قيم المدرسة وأصبح الكل ينادي بمدرسة القيم، وسؤال القيم أصبح يزعج مختلف الفاعلين التربويين لإيجاد أنجع الطرق المؤدية إلى ترسيخ القيم، وعودتها إلى رحاب المدرسة، حتى تنهض نهضة أخلاقية كلية، وليست المدرسة إلا جملة أخلاق “والواقع أن الأخلاق هي عين الإنسانية، بحيث يكون قدرها على قدر تخَلُّقه، وليس التراث الحي ولا الثقافة الصحيحة ولا الحضارة السليمة إلا جملة أخلاق، بل كل ما اتصل في حكم الأخلاق؛ فالعقل خُلُق ما قام على الحق، والعلم خُلق ما طلب النفع، والعمل خلق ما سعى إلى الصلاح، والحياة خُلق ما أفادت حفظ النفس، فإذن حقيقة الأخلاق هي أنها كيفيات وجود الإنسان بما هو إنسان، ولا يكون المسلم مسلما حقا حتى يكون أحرص من غيره على كمال الإنسانية فيه”(6).

بقي أن نقول أخيرا؛ هل مدرستنا الجديدة مدرسة معارف سامية، وأخلاق عالية، ومناهج قويمة راقية؟ أهي مدرسة التفكير والنقد والابتكار؟ أم هي مدرسة استهلاك الأفكار البالية؟ أهي مدرسة بناء الإنسان على أساس الأخلاق الفاضلة، والقيم السمحة الثرة النادرة؟، أهي مدرسة تنمية المهارات اللغوية، والتواصلية، والثقافية، والاستراتيجية، أم هي بعيدة عن كل ذلك..؟!

ذ. محمد حماني

—————

1 ـ عودة حي بن يقظان، المهدي بن عبود، كتاب الشهر (16)، سلسلة شراع، يونيو 1997، ص: 114.

2 ـ مجلة “البلاغة وتحليل الخطاب”، ع: 4، س: 2014/ مقال (دور القدوة في التربية)، تأليف شاييم بيرلمان، تر. الحسين بنو هاشم، ص: 153.

3 ـ نفسه، ص: 152.

4 ـ الجريدة التربوية، ع: 59، س: 2014/ مقال (مدرسة بدون خيال)، صلاح بو سريف، ص: 16.

5 ـ مجلة “دفاتر التربية والتكوين”، عدد مزدوَج 8/9، ملف حول (مهام المدرس ورسالته التربوية)، ص: 139.

6 ـ حوارات من أجل المستقبل، طه عبد الرحمن، الكتاب (13)، منشورات الزمن، أبريل 2000، ص 121.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>