نظرات في سورة القدر


تقديم:
هذه السورة المباركة التي تسمى سورة القدر أو تسمى سورة ليلة القدر كما ورد عند ابن عطية وأبي بكر الجصاص، هي سورة مكية عند أغلب المفسرين. وقد قيل في سبب تسميتها بليلة القدر إنه “نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على رسول ذي قدر ولأمة ذات قدر” وأيضا أن من فعل الطاعات فيها و أحياها يصبح ذا شرف وقدر.
بيان عام للسورة:
أخبر الله تعالى في افتتاح هذه السورة الكريمة “إنا أنزلناه في ليلة القدر” بأنه هو سبحانه الذي أنزل هذا القرآن المعجز في ليلة القدر وهي الليلة المباركة المذكورة أيضا في قوله تعالى “إنا أنزلناه في ليلة مباركة”. جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: “قال غير واحد: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله ” وعبارة وما أدراك ما ليلة القدر تفيد تعظيم هذه الليلة وتفخيم أمرها. قال الخازن: “وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق لخبرها كأنه قال: أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها!؟”.
بعد هذا الافتتاح في السورة والذي يبرز تشريف هذه الليلة وتخصيصها بإنزال كتابه الكريم واجتبائها على سائر الليالي بجعلها الوعاء الزمني الأشرف والأنسب لهذا الحدث العظيم يأتي ذكر بعض الأوجه الأخرى لبيان فضلها والتي لها أهميتها ودلالاتها الكبرى على هذا المعنى:
أولا: “ليلة القدر خير من ألف شهر”: أي إن لها من الشرف والفضل ما يربو على ألف شهر، فالعبادة والطاعات وأعمال الخير التي تكون فيها أفضل مما يكون في ألف شهر مما ليس فيه ليلة القدر. قال مجاهد: “عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر”.
ثانيا: “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”: أي يكثر تنزل الملائكة وعلى رأسها عظيمهم وهو جبريل فتنتشر بين السماء والأرض في مهرجان كوني عجيب، تتنزل في هذه الليلة بالبركة والرحمة كما تتنزل عند تلاوة القرآن، وتحف أهل حلق الذكر، وتضع أجنحتها لطلاب العلم النافع رضا بما يفعلون. وفي قوله تعالى: من كل امر يعني من أجل كل أمر قدره الله وقضاه لتلك السنة إلى السنة القابلة. أقدار الأفراد والأسر والدول والشعوب والأمم. قال قتادة وغيره: “تقضى فيها الأمور وتقدر الآجال والأرزاق كما قال تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم .
ثالثا: سلام هي حتى مطلع الفجر : فهي خير كلها وأمن وسلام من أول يومها إلى طلوع الفجر. تسلم فيها الملائكة في نزولها وعروجها على عباد الله المؤمنين الصائمين القائمين. جاء في التحرير و التنوير : “والسلام: مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة” قال تعالى: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ويطلق السلام على التحية والمدحة، وفسر السلام بالخير، والمعنيان حاصلان في هذه الآية، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخير سلامة من الشر ومن الأذى فيشمل السلام الغفران وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .
ومضات من الهدى المنهاجي في السورة:
أولا: ما مدى تعظيمنا يا أخي لكتاب الله ولهذه الليلة المباركة التي نزل فيها وقد عظمها سبحانه وشرفها في كتابه وسنة نبيه؟ أنا وأنت والأمة جمعاء؟ ما مدى استشعارنا لهذا الاجتباء الرباني والتخصيص الإلهي بإنزال أعظم كتبه في هذه الليلة وتشريفها وتفضيلها على سائر الليالي والأيام والأزمنة. أليس في تخليد هذا الحدث العظيم بهذه السورة المباركة في كتابه العزيز تعليما لأبناء هذه الأمة أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم وهو كما قال الطاهر بن عاشور: “مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى: وذكرهم بأيام الله فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن .
ثانيا: اقترن شهر رمضان المعظم بذكر إنزال القرآن الكريم فيه سواء في آية البقرة التي تنص على نزول القرآن في شهر رمضان في قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان أو آية سورة القدر التي تنص على إنزاله في ليلة القدر إنا أنزلناه في ليلة القدر مما يفيد أن رمضان هو شهر القرآن بامتياز. ألا ينبغي أن يكون الإقبال عليه في هذا الشهر إقبالا خاصا، تلاوة وتدبرا وحفظا ومدارسة..!؟ فما هو حظك يا أخي من هذا كله خلال هذا الشهر المبارك!؟ وأين أنت ممن قيل فيهم يتلونه حق تلاوته !؟ فإن كان لك حظ وافر من هذا فهنيئا لك! فقد وفقت وعرفت فالزم. وإن كان غير ذلك، فهذه ليلة القدر حاول أن تستدرك بإحيائها ما يمكن استدراكه.
ثالثا: لعل في إشارة هذه السورة الكريمة إلى نزول الملائكة وعلى رأسهم الروح الأمين جبريل بالرحمات والبركات وإلقاء التحيات والسلام على المؤمنين الصائمين القائمين ما يفيد الحث على إحياء ليلة القدر في كل سنة اقتداء بهؤلاء الملائكة المقربين ورجاء في الفوز بهذه الخيرات التي خص الله تعالى بها هذه الليلة المباركة. ورد في الموطأ عن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: “إن رسول الله أُريَ أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. فهذه مزية وفضل من الله تعالى على هذه الأمة ليست لسواها فاغتنمها أيها الأخ الفاضل بالطاعات والعبادة إحياء لهذه الليلة حتى تدرك من الأجر والفضل في ليلة ما قد يكون أدركه غيرك في الأمم السابقة بطول العمر.
رابعا:حذار أيها الأخ الفاضل أن تكون من المغبونين في هذه الصفقات التجارية الرابحة مع الله تعالى في هذه الليلة المباركة التي تضاعف فيها أجور الأعمال وقيم الأسهم مضاعفة لا تتاح في ليلة أخرى غيرها، وحذار أن تنزل الملائكة يتقدمهم جبريل بالخيرات والبركات والتحيات الطيبات فيجدونك في صف المحرومين من أهل اللهو أو النوم أو الغفلة فتكون ممن ورد في حقه: من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .
خامسا: عن أبي هريرة عن النبي قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).فها هو رسول الله النموذج الأعلى والقدوة الحسنة، باختيارواجتباء رباني لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا قد تقدمك، فاقتف أثره، وامض و لا تلتفت لمن خلفك. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه، مالا يجتهد في غيرها» (رواه مسلم). وعنها أيضا قالت: «كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، أحيا الليل، وأيقظ أهله وجد وشد المئزر» (متفق عليه). فما عزمك، وما حزمك، وما مدى ائتمامك والإمام أمامك!؟
سادسا: وردت نصوص حديثية كثيرة مختلفة في شأن تعيين ليلة القدر. منها ما يفيد أنها في الحادي والعشرون من رمضان، وقيل: تكون ليلة ثلاث وعشرين، وقيل: تكون ليلة خمس وعشرين. وجزم أبي بن كعب في حديث رواه مسلم في صحيحه أنها ليلة سبع وعشرين. وقيل تسع وعشرون، وقيل غير ذلك، وثبت أيضا في نصوص صحيحة أخرى أمر رسول الله بتحريها في العشر الأواخر من رمضان، وفي السبع الأواخر وفي الوتر من العشر الأواخر… ولعل الحكمة في إبهامها كما قال الإمام برهان الدين البقاعي: ليجتهدوا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في سائر الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جمعيها، وقيام الساعة في الأوقات ليجتهدوا في كل لحظة حذرا من قيامها والسر في ذلك أن النفيس لا يوصل إليه إلا باجتهاد عظيم إظهارا لنفاسته وإعظاما للرغبة فيه وإيذانا بالسرور به… .
سابعا: في قوله تعالى سلام هي قال العلامة ابن عاشور: ويجوز أن يراد بالمصدر الأمر، والتقدير: سلموا سلاما، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى: قالواسلاما قال سلام والمعنى: اجعلوها سلاما بينكم، أي لا نزاع ولا خصام، يشير إليه ما في الحديث الصحيح «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة». فهل يا أخي يسلم من حولك من خصوماتك ومنازعاتك، وهل يشعر الخلق عيال الله اتجاهك بالأمن والسلام و الرحمة و المحبة؟ أقرباؤك وجيرانك ؟
إن كل ذي بصيرة يتأمل بعمق في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومقاصد الشريعة الكبرى يدرك أن هذا الدين الحنيف الرباني المصدر والغاية مبني في جوهره على أسس أخلاقية كبيرة: السلام وقيم الأمن والتسامح و الرحمة و المحبة. فأين نحن من هذا فيما يحدث مع الأسى والأسف الشديد في سوريا و اليمن و ليبيا و العراق وغيرها من بلاد المسلمين. ألا قاتل الله كل طائفية و عنصرية وعصبية منتنة بأي عذر وتحت أي شعار. قال : «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» (أخرجه أبو داوود في سننه)، إنها الجاهلية المقيتة في أثواب معاصرة، فيا حسرة على العباد!!
ثامنا: يستحب الإكثار من الدعاء في كل وقت وحين وفي شهر رمضان المبارك خاصة، وفي العشر الأواخر منه بشكل أخص، وفي أيام الوتر منها أكثر. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عَفُو تحب العفو فاعف عني» (رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح).
فأكثر أخي من الدعاء مع الإلحاح فيه، لنفسك وأهلك والأمة جمعاء تكن إن شاء الله من الفائزين.
ختاما أوصي نفسي أولا وأوصيك أخي/أختي ثانيا بوصية أحد العارفين بالله قائلا: عليك أيها العازم القاصد لإحياء تلك الليلة وإدراكها أن تشمر ذيلك لإحياء عموم الليالي الآتية عليك في أيام حياتك، إذ هي مستمرة فيها، وبالجملة، لا تغفل عن الله في جميع حالاتك حتى تكون عموم لياليك قدرا وخيرا من الدنيا وما فيها .

د. محمد محتريم
—————–
1 – الدخان 3.
2 – صحيح تفسير ابن كثير 4/664 دار الفوائد ودار ابن رجب.
3 – صفوة التفاسير 3/585 دار القلم.
4 – صفوة التفاسير 3/585.
5 – الدخان 4.
6 – التحرير والتنوير 12/465.
7 – ن م 12/462.
8 – البقرة 183.
9 – الموطأ 202 دار الرشاد الحديثة.
10 – الأحزاب 21.
11 – [نظم الدرر قي تناسب الآيات والسور 8/492 دار الكتب العلمية لبنان].
12 – [التحرير والتنوير 12/465].

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>