لآلئ وأصداف – من التفكير إلى التفكر (2)


قلنا إنّ القرآن الكريم يدعو، في سبعة عشر موضعا، إلى التفكّر، ويثني على المتفكّرين، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (البقرة: 129)، قال ابن عطية: “وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته”. ويقرن كتاب الله تعالى التفكّر بطلب الحق، ويجعله سببا إلى الإيمان، ولزوم الطاعة والانقياد إلى الحق. ففي سورة سبأ، من الآية 46، يقول : قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ .
فقد جاءت الدعوة إلى التفكّر، باعتباره الطريق الموصل إلى الحق، بعد إخلاص القصد، والقيام لله تعالى. وهذا من قريّ قوله : اقرأ باسم ربك ، التي هي أول ما نزل من القرآن، فإنّ القراءة لا تؤدي هدفها المرجو، ولا رسالتها المرسومة، ما لم تكن: باسم ربك ، إذ هي إذا لم تكن باسم ربّك ، لا يؤمَن أن يكون مآلها إلى الضلالة والخسران. فكذلك لا يستقيم التفكر، ولا يؤدي وظيفته، ممن لم يجرد نفسه من الأهواء، والعناد، ولم يبد استعداده للانصياع للحق متى تبيّن له وجهه. ولذلك لم يكن فعل الوليد بن المغيرة تفكّرا، بل كان فكرا، لأنه كان منطلقا من الأهواء، ملتمسا ما يبطل به الحق، ولذلك قال تعالى فيه: فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر ، فهو يعرف الحق، إلا أنه جحودا منه ينكره، وهذا مثلما قال : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (الأنعام: 33)، فالوليد يرمي كلام الله تعالى بما يعرف أنه باطل. وقد شهد لأصحابه ببلاغة القرآن الكريم، وهو في قرارة نفسه يقر بأنه كلام الله. فقد ذكرت كتب السير، عن ابن عباس : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر . فقوله: فدعني حتى أفكر، قول صريح بأنه لا يريد الحق من وراء تفكيره، بل هو يلتمس الباطل الذي يرضي به قومه.
والغريب أننا نجد بعض المفسرين، أثناء تعرضهم لآيات التفكّر، يضعون لفظ (التفكير) موضع (التفكر) دون أن ينتبهوا، أو يشعروا بأيّ حرج فيما يفعلون. وبعضهم يقول إن التفكر هو التفكير، وينتهي. وبعضهم يقول إن التفكر ظاهر المعنى، ويريح نفسه من التفكر في لفظ (التفكر).
وحتى أصحاب التفسير الإشاري، فيما وصل إليه علمي، لم يقولوا شيئا في التفكر، فهم يجعلون التفكير والتفكر شيئا واحدا، رغم أننا لا نجد في القرآن الكريم: لعلكم تُفكّرون .
وهذه نماذج لذلك:
قال السمعاني: لعلكم تتفكرون: ظاهر المعنى. وكذلك قال الماتريدي.
وقال القرطبي: فلو فكّر العاقل..
ويجعل الشوكاني: لعلكم تعقلون و لعلكم تتفكرون شيئا واحدا.
الميرغني: لعلكم تتفكرون وبالتفكير ترشدون. طنطاوي: لعلهم يتفكرون، فيحملهم هذا التفكير.
سيد قطب: لعلهم يتفكرون، وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكير.
ولكننا نجد بعض العلماء يتفكّر في آيات التفكر، فينص على بعض ما يميز اللفظة عن أختها، التفكير. فقد ربطوها بالتدبر والتأمل والتفهم، وما أحرى ذلك أن يكون قريبا من الحق.
قال الطبري: تتفكرون، أي تنظرون وتتفهمون. وقال أيضا: لتتفكروا بعقولكم فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله تعالى فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.
وجعل الفخر الرازي التفكّر قرين القلب والبصيرة، فقال: والتفكر طلب المعنى بالقلب، وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر، والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له، وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي، طلبا لتحصيل تلك الرؤية بالبصر، فكذلك الرؤية بالبصيرة، وهي المسماة بالعلم واليقين، حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب، طلبا لذلك الانكشاف والتجلي، وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته، فقوله تعالى: أولم يتفكروا أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفانا حقيقيا تاما . وظني، ومن الظن اليقين، أن الفخر رحمه الله لم يقل: “أمر بالفكر”، بل قال: “أمر بالتفكر”، وإنما التحريف من النساخ، أو من المحققين.
أبو زهرة: لتتفكروا: لأن ذلك من شأنه أن يرجى معه تفكر المتفكر وتدبر المتدبر، ولذلك قال بعض العلماء: إن لعل هنا للتعليل، فالمعنى كان ذلك البيان لتتفكروا وتتدبروا. وجعل السيوطي التفكّر والتدبر شيئا واحدا.
وفصل ابن عثيمين بعض التفصيل فقال: فالإنسان مأمور بالتفكّر في الآيات الكونية، والشرعية؛ لأن التفكر يؤدي إلى نتائج طيبة؛ لكن هذا فيما يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه؛ أما ما لا يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه فإن التفكر فيه ضياع وقت، وربما يوصل إلى محظور، مثل التفكر في كيفية صفات الله ، هذا لا يجوز؛ لأنك لن تصل إلى نتيجة؛ ولهذا جاء في الأثر: «تفكروا في آيات الله ولا تفكروا في ذات الله»؛ لأن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه؛ وغاية لا تمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (الأنعام : 103).
وعودا على بدء أقول: إن الله تعالى أمر بالتفكّر، وجعله من العبادة، وسبيلا إلى ترسيخ الإيمان، والتفكّر لا يكون إلا بجِلاء القلب، وتصحيح القصد. وإن هي إلا دعوة إلى التفكّر، والله من وراء القصد، وهو العليم الخبير.
يلتقطها أ.د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>