لقد كان لعلماء الحديث اهتمامٌ بالغ بأحاديث رسول الله ، حفظاً وضبطاً لمتونها، وفحصاً وتمييزاً لنقلتها، وتنقيبا وكشفا وبياناً لفقهها، وحلاً لغوامض ألفاظها.
وقد جعلوا للتعامل مع ألفاظ الأحاديث قواعد تضبط مسالك الفهم وتضيء مسارب الاستنباط، وتعصم الأفكار من غي الخطأ ومن مزالق الزلل والضلال والوهم، منها قاعدة اعتبار دلالة السياق في فهم الحديث النبوي. وهي قاعدة جليلة لها وقع وتأثير كبير في جودة الفهم، قال الإمام ابن دقيق العيد(ت 702هـ): “فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلكـ”، وقال ابن القيم:”السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته”
ورغم أن السياق من المصطلحات العصية على التحديد الدقيق(1)، إلا أن العلماء والباحثين اجتهدوا في بيان خصائصه وعناصره، وأثره في تحديد المعنى(2).
• أنواع السياق وأثرها في توجيه المعنى:
ميز العلماء بين نوعين من السياق:
الأول: سياق المقال (السياق الداخلي)، والثاني: سياق المقام (الحال أو السياق الخارجي). ويندرج تحتهما أنواع أخرى. فما طبيعة كل واحد منهما؟ وكيف يؤثر في توجيه المعنى؟
الأول سياق المقال:
وهو السياق اللغوي الداخلي الذي ينتج عن ترابط الأصوات فيما بينها لتوليد الكلمات، والكلمات فيما بينها لتشكيل الجمل، والجمل فيما بينها لتشكيل النص.
نلاحظ أن القرائن المعتبرة لمعرفة دلالة سياق المقال، راجعة إلى النظم، والتراكيب النحوية، مع اعتبار قواعد دلالات الألفاظ؛ فالباحث في دلالة سياق المقال، يحتاج إلى التمكن من تلك الأدوات، ومن هنا نلاحظ تفاوت الباحثين في هذا المجال بسبب تفاوتهم في امتلاك تلك الأدوات، وتمكنهم من تطبقيها أثناء النظر في النصوص النبوية الشريفة.
الثاني سياق المقام:
وهو الذي يمثل البيئة التفاعلية بين المتحدث والمخاطَب، وما بينهما من عرفٍ سائد يحدد مدلولات الكلام، وذلك أن تداول الخطاب يجري في سياق ثقافي واجتماعي بين المتحدث والمخاطب، وليس لفظاً مجرداً عن محيطه الذي يجري فيه.
ومن هنا كانت معرفة “قصد المتحدث، وحال المخاطب، والبيئة المحيطة بهما” ذات أهمية في تبين دلالة السياق؛ إذ قد يجتمع نصان متفقان في ظاهرهما في المعنى، ولكنهما مختلفان في الدلالة تبعاً لقصد المتحدث، أو حال المخاطب، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أهمية اعتبار هذه الأمور في تقييد الدلالة فقال كل لفظ: “مقيد مقرون بغيره، ومتكلم قد عرفت عادته، ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ، فهذه القيود لا بد منها في كل كلام يفهم معناه، فلا يكون اللفظ مطلقا”([3]).
• العلاقة بين السياقين:
هذان النوعان ليسا منفصلين عن بعضهما، بل كل منهما يكمل الآخر، ولابد منهما عند التعامل مع النصوص النبوية ليتكامل الفهم، فالاقتصار على السياق المقالي وحده، سيجعل النص بيئة مغلقة تقتصر على ما تفيده الألفاظ من دلالات ومعان، وتحرم الباحث من البيئة الخارجية المحيطة بالنص، كما أن التوقف عند دلالة سياق المقام فقط تجعل الباحث يحوم حول حمى النص دون الولوج إليه.
وقد عوَّل كثيرٌ من الأئمة على دلالة السياق بجانبيها المقالي والحالي في شرح الأحاديث النبوية، وإليك نماذج من تطبيقات الأئمة التي ظهر من خلالها أهمية اعتبار دلالة السياق في فهم الحديث النبوي.
أولاً: سياق المقال
لابد من التأكيد على إشكالية منهجية تواجه الباحث عند النظر في دلالة سياق المقال، وهي اختلاف سياق الألفاظ، مما يؤثر على تطبيق قواعد الاستدلال.
ولدفع هذه الإشكالية ينبغي أن يكون النظر في سياق متن الحديث تالياً لجمع روايات الحديث، ومعرفة الوجه الراجح منها عند تعارضها، والحاجة إلى جمع روايات الحديث تشمل النظر في السياق المقالي الخاص لحديث واحد، والسياق المقالي العام لأحاديث متفقة في المعنى.
ودلالة السياق تستدعي النظر في ألفاظ الحديث جميعها، قال الإمام الشاطبي رحمه الله :”فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، فإن فرَّق النظر في أجزائه، فلا يتوصل إلى مراده”(4).
وقد ظهر أثر تطبيق دلالة السياق في كتب شروح الحديث في جوانب مختلفة، فكان لها أثر في تطبيق القواعد النحوية على المتن النبوي، فأفادت ضبط النص النبوي، وكشفت عن معاني حروف العطف، ودفعت بعض الإشكالات اللغوية.
وإليك هذا المثال التطبيقي: حديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله…»(5). قال الحافظ ابن حجر: “فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلا: من أطاع أطاع، وإنما يقال مثلا: من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق”(6).
وفي مجال الفقه والاستنباط: فإنَّ السياق المقالي أدى إلى جودة الاستنباط، وتحديد صفة الفعل الذي تعلَّق به الحكم، وفي مجال تطبيق القواعد الأصولية فإنَّ السياق يكشف عن الدلالة هل هي عامة أو خاصة، وهل هي مطلقة أو مقيدة…
ومن الأمثلة التطبيقية لذلك:
حديث أبي هريرة أن رسول الله قال:«إنَّ أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطانُ فلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين، وهو جالسٌ»(7). قال ابن بطال:”ولم يفرق بين أن تكون صلاته فريضة أو نافلة، والأفعال نكرات، والنكرات في سياق الشرط تعم، كما تعم في سياق النفي، والله سبحانه وتعالى أعلم”(8).
وفي مجال ضبط النص ودفع ما قد يعتريه من سقط أو غموض، فإنَّ دلالة السياق كشفت عن بعض أنواع السقط في المتن، وأسهمت في تعيين مبهمات المتن، وتحديد صاحب القول عند الاشتباه، واستبعاد الغريب من الأقوال، ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك: حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله :«أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي، وربما قال من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم»(9).
قال الإمام النووي:” وقوله : «إني لأراكم من بعدي» أي من ورائي كما في الروايات الباقية قال القاضي عياض، وحمله بعضهم على بعد الوفاة، وهو بعيد عن سياق الحديث”(10).
ثانيا:ً سياق المقام
ولما كان هذا السياق يمثل البيئة التفاعلية بين المتحدث والمخاطب، فإنَّ من أعظم الوسائل المعينة على إدراكه: هو معرفة سبب ورود الحديث، الذي هو ثمرة من ثمار جمع روايات الحديث.
وقد تبيَّن من تطبيقات الأئمة أن دلالة سياق المقام واسعة، وقد ظهر أثرها في جوانب مختلفة، فمعرفة قصد المتحدث أدت إلى تأويل بعض النصوص على خلاف ظاهرها، فأخرجت النص من مساق الذم إلى مساق المدح، وأثمرت دقة في الاستنباط، ومعرفةً للخاص من العام، واستبعاداً للغريب من الأقوال.
ومن الأمثلة التطبيقة:
حديث أبي هريرة قال : «الظهر ركعتين ثم سلَّم…وكان في القوم رجلٌ يدعوه النبي ذا اليدين، فقال النبي : أصدق ذو اليدين»(11)، وقد بوب البخاري على هذا الحديث بقوله:”باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم: الطويل والقصير”. قال ابن المنير:”أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن كان للبيان والتمييز، كما ورد في الحديث، فهو الجائز، وإن كان في غير هذا السياق كالتنقيص والتغييب فهذا الذي لا يجوز، وإشارة عائشة في بعض الحديث إلى المرأة التي دخلت عليها، ثم خرجت فأشارت عائشة بيدها أنها قصيرة، فقال النبي : اغتبتها؛ لأن عائشة لم تفعل هذا بياناً، وإنما قصدت إلى الإخبار عن صفتها خاصّة ففهم التغييب، فنهيت”(12).
والقرينة الحالية التي اعتبرت في فهم النصين عائدة إلى قصد المتحدث، التي تُدرك من شواهد الحال، فلم يكن حال سؤاله لأصحابه قاصداً التنقيص منه، وأما إشارة عائشة، فكانت شواهد الحال تدل على أنها تريد التنقيص منها.
وأما حال المخاطب فهي مؤثرة في سياق المقام، والاهتداء إلى فقه الحديث، ومن الأمثلة على ذلك: حديث عبد الله بن مسعود قال: “كان رسول الله يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهية السآمة علينا”(13)، قال البدر العيني: “فإن قلت : أيجوز أن يكون المراد من السآمة سآمة رسول الله من القول؟ قلت: لا يجوز، ويدل عليه السياق وقرينة الحال”(14).
ولسياق الحال أيضاً أثره في تبيين الظروف المكانية والزمانية، وضبط النص، وله أثره في حسن فهمه، وذلك بتحديد نوع الأمر أو النهي، وبيان هيئة الفعل، وسلامة الترجيح، ودفع الإشكالات الواردة على الحديث. ومن الأمثلة التطبيقية على أحد هذه الأنواع: حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي دخل عليها وعندها امرأة، قال: «من هذه؟» قالت: فلانةُ تذكرُ من صلاتها. قال: «مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه»(15).
وقد اختلف في المراد بقوله :«مه». هل هو نهي لعائشة عن مدح المرأة لأنها كانت حاضرة، أم أنَّ النهي لأن العمل لا يُمدح بمثله، قال ابن رجب:”ويحتمل -وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث- أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع”(16).
• من ضوابط التعامل مع دلالة السياق:
إن الناظر في تطبيقات الأئمة لدلالة السياق بشتى مرادفاتها، يتبين له جملة من الضوابط التي كانوا يراعونها في تعاملهم مع دلالة السياق، ومن تلك الضوابط:
1 – أن يكون النظر إلى سياق الألفاظ تالياً لجمع ألفاظ الحديث، وتمييز درجة كل لفظ من حيث القبول أو الرد. وهذا في السياق الخاص أو(الجزئي).
2 – الوقوف على جميع الأحاديث المتفقة في المعنى مع الحديث محل الدراسة، إذا كان المراد التعرف على السياق الكلي لتلك الأحاديث. ومما يُلحق بهذا الأمر معرفة مسالك الأئمة في سوق الأحاديث داخل الأبواب الفقهية.
3 – معرفة سبب ورود الحديث، فإن له أثر في فهم سياق الحديث، ولذا فينبغي العناية بالوقوف على سبب الحديث إذا كان للحديث سبب، فإنه يمثل سياق المقام.
4 – ينبغي أن يكون النظر إلى المتن الحديثي نظراً شاملاً من أول الحديث إلى آخره.
5 – أن دلالة السياق من قبيل دلالة المفهوم التي لا عموم لها كما هو مقرر في علم الأصول.
6 – دلالة السياق هي الأصل في فهم النص النبوي، فينبغي أن تكون هي المعتمدة حتى يقوم معارض أرجح.
7 – أن دلالة السياق لا يُطلب لها دليل لإثباتها، “ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فهم المقصود من الكلام وطولب بالدليل عليه لعسر؛ فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه”(17).
8 – معرفة دلائل الألفاظ، وقواعد اللغة العربية.
9 – معرفة القواعد الأصولية المتصلة بدلالة السياق:”العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحقيقة والمجاز، والإجمال والبيان”.
10 – التفريق بين دلالة السياق وبين قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سبب الورود.
11 – ينبغي أن يعلم أنَّ دلالة السياق تتنوع بحسب الحال التي ورد اللفظ فيها كلفظ السلام إذا ورد في سياق ذكر الصلاة، فإن السابق إلى الذهن، -وهو دلالة السياق- معنى خاص وهو التحلل من الصلاة، وإذا ورد في سياق التعامل، فإنَّ السابق إلى الذهن هو التحية وهكذا….
ذ. نجيب الهداجي
—————–
1 – مجلة الإحياء (ص54) العدد 25.
2 – البحث الدلالي عند الأصوليين قراءة في مقصدية الخطاب الشرعي عند الشوكاني لإدريس بن خويا (ص11).
3 – مجموع الفتاوى لابن تيمية (728ه)(20/415).
4 – الموافقات للشاطبي (3/413).
5 – أخرجه البخاري(حديث1)، ومسلم(حديث1907).
6 – فتح الباري لابن حجر(1/16).
7 – أخرجه البخاري(حديث1175).
8 – فتح الباري لابن رجب(6/521).
9 – أخرجه البخاري(حديث709).
10 – شرح النووي على مسلم (4/150).
11 – أخرجه البخاري(حديث5704).
12 – المتواري على تراجم البخاري لمنير الجذامي الإسكندري (683ه)(1/357).
13 – أخرجه البخاري(حديث6048).
14 – عمدة القاري للبدر العيني (2/45).
15 – أخرجه البخاري(حديث43).
16 – فتح الباري لابن رجب الحنبلي (1/150).
17 – إحكام عمدة الأحكام(2/187).