العتق من النار في رمضان: موجباته وثمراته


قال ﷺ: «إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة»
(رواه الإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث 2169).

إن أهم ما يسعى إليه الصائم في رمضان هو النجاة من النار والفوز بالجنة، وقد اجتمع في رمضان من العوامل التي تساعد الصائم على نيل هذا الفضل العظيم ما تفرق في غيره؛ فرمضان شهر الرحمة، وشهر المغفرة، وهو أيضا شهر العتق من النار، فكيف نستطيع الفوز بهذا العتق؟ وما آثار ذلك على سلوك المسلم؟
أولا: من موجبات العتق من النار:
وضع الشارع أسبابا كثيرة للعتق من النار رحمة بعباده، وسأقتصر هنا على ما ورد في الحديث وهو أمران:
1 – تحقيق عبودية الصيام:
تضمن الحديث الموجب الأول للعتق من النار فقال : «إنَّ لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة» من رمضان كما جاء في رواية أخرى، مما يؤكد فضل هذا الشهر الذي جعله الله فرصة للمذنبين لكي ينجوا بأنفسهم من العذاب، وقد صرحت رواية ابن مسعود بعدد العتقاء من النار، ونصها: «… ولله  عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفا، فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفا» (شعب الإيمان، البيهقي). قال المنذري: “وهو حديث حسن لا بأس به في المتابعات”(2). وحدد حديث آخر الزمن الذي يحصل فيه العتق وذلك عند الفطر، قال : «إن لله عند كل فطر عتقاء» (رواه أحمد).
ويستفاد مما سبق؛ أن رمضان شهر يكثر فيه العتق من النار، وأن الطريق مفتوح لكل صائم ليدخل في زمرة العتقاء شريطة تحقيق عبودية الصيام، فالعبد في رمضان بصيامه، وقيامه، وذكره لله ، ومساهمته في فعل الخير، قد يبعد نفسه عن النار، ويقربها من النعيم، والكثير من الصائمين ولله الحمد يستفيدون من هذه الفرصة؛ فيجعلون شهر رمضان منعطف الصلاح والفلاح في سيرتهم، فيغيرون مجرى حياتهم من المعاصي والآثام إلى الاستقامة والعمل الصالح، فيبتعدون عن التدخين، والخمر، والقمار، ويواظبون على أداء الصلاة في وقتها ولم يكونوا قبل رمضان من المصلين أصلا، ويؤيد هذا المعنى قوله : «الصوم جنة يَستجن بها العبد من النار» (المعجم الكبير، الطبراني).
وقد جعل الله تعالى الصوم بصفة عامة وسيلة شرعية عملية يلجأ إليها المسلم في بعض الحالات لأداء ما في ذمته من ديون مستحقة لله ، فشرع الصوم كفارة ليمين الحانث عند العجز، يبرئ به ذمته أمام الله ، وجعل الصيام أيضا بديلا عن عتق الرقبة في دية القتل الخطأ، وفي كفار الظهار، قال تعالى: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله (النساء: 92). وقال أيضا في كفارة الظهار: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا (المجادلة، 3 – 4).
فالصوم وسيلة شرعية لإخلاء الذمة، وهو بذلك طريق إلى النجاة من النار، فهو عتق في الدنيا، وعتق في الآخرة.
2 – اجتناب مفسدات الصيام:
يفهم من الحديث أن العتيق من النار في رمضان هو الذي يصوم ابتغاء وجه الله فقط، ويؤكد هذا المراد ما جاء في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي» (صحيح البخاري). فالصيام عبادة سرية تكون بين العبد وربه، وفيها يظهر الإخلاص لله أكثر من غيرها؛ لأن الصائم يمتنع عن كل ما يرغب فيه من الملذات مع قدراته على إتيانها خوفا من الله ، ولعل هذا هو السر في إضافة الصيام لله  دون سائر العبادات، قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه؛ ولهذا قال في الحديث يدع شهوته من أجلي (2).
فالصائم بإمكانه أن يصوم ما شاء الله من الأيام دون أن يعرف أحد بذلك، كما يمكنه أن يأكل في نهار رمضان دون أن يعرف بذلك أحد، لهذا كان الصيام عبادة بين المرء وربه، ولهذا اختصه الله بالإضافة إليه، وبهذا الاختصاص كان جزاء الصوم من عند الله لا يعلمه أحد. قال  “وأنا أجزي به”.
قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير (3). وإذا كان جزاء الصائم بينه وبين الله  بحسب إخلاصه في صيامه، فإن العتق من النار هو جزء من ذلك الجزاء الذي لا يقدر؛ لأن العتق درجات، والجنة مقامات، قال سفيان بن عُييَنة: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله، حتى لا يبقى له إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة (4).
وعليه؛ فإن إخلاص الصيام لله تعالى هو الذي جعل الصائم يتبوأ هذه المكانة الرفيعة، وأن الصوم إذا كان لأغراض أخرى كالحفاظ على رشاقة البدن، أو لعلاج بعض الأمراض، أو للتظاهر بكثرة الصوم أمام الناس، أو لكون الصوم عادة الناس في رمضان، فهو صوم باطل شرعا، وليس لصاحبه إلا الجوع والعطش، وبسب هذا الاختلال في القصد لا يزال المجتمع الإسلامي يعاني من ظواهر اقتصادية واجتماعية كثيرة من المفروض أن تختفي في رمضان، مثل غلاء الأسعار، واحتكار البضائع، والميل إلى الخمول وقلة الإنتاج، وانتشار البرامج الإعلامية السفيهة التي تتعارض مع مقاصد الصيام، وتنتهك حرمة شهر رمضان.
ثانيا: من ثمرات العتق من النار في رمضان:
من خلال الحديث يمكن استخلاص النتيجتين التاليتين:
1 – قبول دعاء العتيق:
أشار النبي بقوله: «لكل عبد منهم دعوة مستجابة» إلى ثمرة العتق من النار في رمضان، وهذا فضل آخر يحصل عليه الصائم بعد نعمة العتق، فالله يسمع دعوته ويستجيب له. ولاشك أن الدعاء عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، ويعترف من خلاله بضعفه وعجزه بين يدي الله ، فيطلب من الله العون، وكشف الضر، ودوام العافية، فيستجيب الله للداعي؛ لأنه صائم عتيق صار من أصحاب الجنة، ويؤكد هذه النتيجة قولهﷺ : «ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر..» (سنن الترمذي).
فالمسلم يشعر عند الدعاء أنه أمام الله ، ويحضر قلبه، ويدعوا بآداب وإلحاح، ويكثر من الاستغفار، ويقلع عن الذنوب؛ لأنه يناجي ربه بغير واسطة، والله سميع بصير يعلم أحوال الداعي، وقصده، وحاجاته، فلا يغفل الداعي عن ذلك أو يشك في تلك الحقيقة اليقينية، قال : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (سنن الترمذي).
إن الصائم العتيق مستجاب الدعاء، فليختر في دعائه النعم التي لا تزول، قال : «ما سأل رجل مسلم الله الجنة ثلاثا إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة ، و لا استجار رجل مسلم الله من النار ثلاثا إلا قالت النار: اللهم أجره منِّي”» (مسند أحمد). وليوطن نفسه على كثرة النوافل التي تقربه من الله، وليحرص على أن يتضرع لله عند الإفطار لقوله : «إن للصائم عند فطْره لدعوة ما ترد». سنن ابن ماجه. ومن أجل دوام نعمة استجابة الدعاء للعتيق، عليه أن يكثر من شكر الله على ذلك، عن طريق العمل الصالح والمواظبة على خشية الله  في السر والعلانية.
2 – استقامة العتيق على فعل الخير:
من ثمرات العتق من النار في رمضان؛ أن العتيق يراجع حاله ويعود إلى رشده؛ لأن الله  حرم جسده على النار، وصار من أهل الجنة، فهو قد وُفق للابتعاد عن الشر والعصيان، وأخذ بيده ليكون من أهل الفضل والإحسان، وهذا المقام يحتاج من العتيق إلى مجاهدة النفس، ومساعدة غيره من العصاة ليعرفهم على رحمة الله ولطفه بعباده لعل الله يهدي به غيره.
ومن أهم وسائل استمرار العتيق على صلاح الحال بعد رمضان، إقامة شعائر الله في وقتها، وعلى رأسها الصلاة لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. ولعل من أهم الأمارات الدالة على أن الصائم أعتق من النار هو مواظبته بعد رمضان على طاعة الله ، وهذا واقع مشاهد؛ فكثير من الناس يأتيهم رمضان وهم على أعمال الشر، فيخلصون الصيام لله، ويكثرون من القيام، والدعاء، وقراءة القران، فيودعهم رمضان وقد ابتعدوا عن جميع مستنقعات الفحش والرذيلة؛ لأن الله كتب لهم أن يكونون من العتقاء قال تعالى: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (محمد: 17).
فالعتق من النار يعني أولا وأخيرا أن الأمة الإسلامية ودعت رمضان بالحصول على أفراد مصلحين قادرين على بناء مجتمع يعبد الله فيه بإخلاص، وتعمر الأرض فيه بالخيرات؛ لأن وجود الصالحين المصلحين من لوازمه عمارة الأرض، ووجود الفاسدين المفسدين من لوازمه فساد الأرض.
ذ. محمد البخاري

—————–
1 – الترغيب والترهيب، زكي الدين المنذري، دار الكتب العلمية، ط1، 1417، ج2، ص 64
2 – مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، المباركفوري، إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء، بنارس الهند، ط2، 1404 هـ، ج6، ص 407.
3 – المصدر نفسه،ج6، ص: 407.
4 – فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة، 1379،ج4، ص: 109.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>