أيامٌ معدودة، وساعات محدودة، عام مضى سريعا، وأوشك أن يحل رمضانُ قريبا، وبين ما مضى وما أتى، عامٌ بالتمام بالكمال والتمام، وبينهما انقضى زمنٌ من عمر الإنسان، وإنما ابنُ آدم أيام معدودة فإذا ذهب يومُه ذهب بعضُه ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكلّ، ولا يَقُلِ العبدُ: ذهب لي درهم، وسقط لي جاه، بل عليه أن يقول: ذهب يومي، ما ذا عملت فيه؟ فإن باليوم ينقُص العُمر، ولذلك أُثر عن ابن مسعود أنه قال: “ما ندِمتُ ندَمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي”.
ها قد دارت عجلة عام بسرعة فائقة، فإذا وقف المسلم مع نفسه محاسبا، ماذا قدّم فيما مضى من عامٍ، بل من عمرٍ، انقضت فيه أيامٌ وليالٍ، وهو يستحضر حديث رسول الله الذي يقول فيه: «أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلُّهُم من يجوز ذلك» (رواه الترمذي).
ألا يُصاب بالخوف والرهبة وقد طوتْ عجلة الزمام رصيدا كبيرا من العمر !؟
فكم هي الأعمار قصيرة، يبلُغ العبد الستين و/ أو السبعين، ثم ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، وقد يختطفه الموت في سن الشباب؟ !.
ألا يدعو قصَرُ العمر إلى الوجل والخوف !؟
وكيف المصير إذا غادر العبد دنياه على حين غفلة من أهلها، ووجد الله عنده فوفّاه حسابه !؟
ألا يخاف وقد قصُرَت الأعمار، وقلّت الأعمال، وضعُف الزاد ؟
فما السبيل إلى النجاة والاطمئنان ؟
وهل فات قطار العمُر وسبيل العمل؟
ولأنّ للمسلمين ربّاً رحيما يعرف الأحوال، ويعلم السر والإعلان، فإنه سبحانه يعوّض العباد ما فات من خير في السنين، حين يضاعف أجورهم وحسناتهم في أوقات شريفة، ومواسمَ كريمة، ومن أشرفها وأعظمها شهر رمضان الذي يطرق الأبواب، ويفتح القلوب المذنبة، ويفتح الأفئدة الصَّدِئَة، ليمحو فيه السيئات، ويضاعف فيه الحسنات، ويكفّر فيه الخطيئات، ولذلك ينبغي لمن أحسّ بالتقصير خلال ما مضى أن يُعدّ العُدّة لاستقبال رمضان، ويقفَ معه وقفات ضرورية؛ ومن ذلك:
الوقفة الأولى:
وقفة محاسبة: يقف مع نفسه محاسبا إياها حسابا على ما قدّمت من عمل صالح، وما اقترفت يداه من ذنب ووزر، يخاطب العبد نفسه بصراحة وجرأة، قائلا:
يا نفسُ ! عام مضى من عمري، مضت كل اللحظات التي ابتعدت فيها عن ربي، باللهو والشرب والعبث،
يا نفسُ ! كلُّ تلك اللحظات ظلت تباعدني عن ربي، وتُنسيني نفسي،
يا نفسُ! أنت في كل لحظاتك قريبة إلى الآخرة، فكوني من طلاب الآخرة، ولا تكوني من طلاب الدنيا. يذَكّرُها بقول علي : “ارتحلت الدنيا مُدبرة، وارتحلت الآخرة مُقبلة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل”، ولله درُّ القائل:
نسيرُ إلى الآجال في كل لحظة
وأعمارُنا تُطوى وهنَّ مراحلُ
ترحل من الدنيا بزادٍ من التُّقى
فَعُمْرُكَ أيامٌ وهنَّ قلائـــــــــــــــــــلُ
وما هذه الأيامُ إلاّ مراحلٌ
يَحُثُّ بها حادٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجَبُ شيءٍ لو تأمَّلتَ أنها
منازلُ تُطوى والمُسافِرُ قاعــــــــــــــــدُ
هي وقفة للمحاسبة، وفاعلها يصنّف في زمرة الأكياس العقلاء، فقد قال : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني» (رواه الترمذي). وقد أمر الحق سبحانه عباده المؤمنين بالمحاسبة فقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد قال ابن كثير: “أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا وانظروا ما ذا ادّخَرْتُم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم مَعادِكم وعَرضِكُم على ربكم”. وأثناء المحاسبة، يتذكّر العبد، كم من العمر ضيَّع، وكم من صديقٍ فَـقَد، وكم قريبٍ دفَن، وقد كانوا ينتظرون شهر رمضان، ليفوزوا بالصيام والقيام، ولكن الله قَبَضَهم إليه قبل حلول الشهر الفضيل، وقَطَعَ الموتُ آجالَهم.
الوقفة الثانية:
التوبة، التوبة، التوبة: وهل يتوب المطيع؟ أم هل يتوب العاصي والمُذنب؟ وهل التوبة دعوة للعصاة الذين ضيّعوا أعمارهم في المعاصي فقط؟ أبدا، التوبةُ مطلب المؤمنين أولا، فقد قال تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تُفلحون (النور: 31) وقال: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا (التحريم: 8). فلا بد من التوبة: المؤمن يجدّدها، والعاصي يعلنها، والعبد ليس معصوما من الزلل، وإنما يقع في الذنوب والآثام، ما صغُر منها وما كبُر، ما قلّ منها وما كثُر، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وقد جاء في حديث أنس ، أن النبي قال: «والذي نفسي بيده، لو لم تُذنبوا لذَهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم» (رواه مسلم). وقد يتعجل امرؤ فيسأل: ومتى يقبل الله التائبين، ومتى يستجيب الله لنداء المذنبين؟ طبعا في كل وقت وحين، ولكنْ في رمضان يُضاعَف عددُ المقبولين، وتزداد أعداد التائبين، فإذا جاء رمضان، تُفتَح أبواب الجنة، لمن؟ للتائبين، وتُغلَق أبواب النار، أمام التائبين، ويُنادي المنادي في هذا الشهر كله: يا باغي الخير أقبِلْ، ويا باغيَ الشرّ أَقْصِر، فياسعادة من وقف وقفة للتوبة: نَدِمَ وتاب، واستغفر ربَّه خاشعا وأناب، واغتنم ما بقي من العمر بتوبة صادقة، وإنابة سريعة قبل انقضاء العمر، والرحيل عن الحياة، فيجدّد العهد مع الله: يأتمر بأوامره، وينتهي عن مناهيه، ويقف عند حدوده، ويستقيم على دينه حتى يلقاه، فإن العبرة بالخواتيم، وهذا كلُّه بين العبد وربه. أما التوبة من ذنوب العباد، فبِرَدِّ المظالم إلى أصحابها، فإذا ظلم العبدُ أحدا، أو أكل ماله بالباطل، أو انتهك عِرضه، فلا بد من التوبة من ذلك كله.
الوقفة الثالثة:
في حياة الناس اليوم، تنافسٌ على الدنيا شديدٌ، وتسابقٌ على المكاسب كبيرٌ، الهمُّ جمعُ المال، وتبوّؤ المناصب، والتباهي بالدنيا وزخارفها، فهذا يحسُد زميله في العمل، والآخرُ يزايد على أخيه ليأخذ سلعته، وذاك يكيد لصاحبه ليُلصِق به التُّهم الباطلة، وهذا يُجنِّد قلمه لانتهاك خصوصيات الناس. حالاتٌ من الصراع الدفين تموج في واقع الناس، ينتُج عنها إيغارُ الصدور، فتحدث الفرقة والقطيعة، وتفشو الشحناء والضغينة، ونحن نعلم أن نبينا قد نهى عن ذلك بقوله: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجُر أخاه فوق ثلاث» (البخاري ومسلم)، وعندما سئل عن أفضل الناس قال: «كلُّ مخمومِ القلب، صدوقُ اللسان» قال: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثمَ فيه ولا بغْي ولا حسد» (ابن ماجة والطبراني).
فأي وقفة في هذا المعنى؟
إنما هي وقفة لتطهير القلب وتصفية النفس من كل الموبقات، فيستقبل العبد شهر رمضان بقلب طاهر نقي، وفؤاد زكي، ونفس سليمة من الحقد والحسد والبغضاء، نحوَ كل إنسان أساء، أو اعتدى، أو كادَ، وقد يكون أقرب الناس إليك، يتذكّر العبدُ أن القلب السليم مع العمل الصالح القليل يصير بصاحبه إلى الجنة. وفي قصة عبد الله بن عمرو بن العاص مع الأنصاري العبرةُ البليغة، فقد أخبر النبي مرّة فقال: «يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة» فدخل رجل من الأنصار تنطُف لحيتُه من وضوئه، تعلَّق نعلاهُ بيده الشمال……قالها ثلاثة أيام، فافتعل عبد الله بن عمرو مبررا، بغرض معرفة العمل الذي جعل النبي يشهد للرجل بالجنة، فاستضافه الرجل في بيته “فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تقلّب على فراشه ذكر الله، وكبّر حتى يقوم لصلاة الفجر، وبعد الأيام الثلاثة، أخبر الرجلَ بحقيقته وأنه سمع النبي يقول لثلاثة أيام متواليات: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة» فأردت أن أقتدي بك، فلم أرك تفعل كثيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما ولّيتُ دعاني وقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشّا، ولا أحسُد أحدا على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي لا تُطاق” .
هكذا ينبغي استقبال رمضان بنفوس سليمة، وقلوب طاهرة، فرمضان موسم الصفاء والنقاء والألفة والمحبة والإخاء. نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا، ويستر عيوبنا ويبلغنا رمضان فنطيعه كما يريد سبحانه. والحمد لله رب العالمين.
د. كمال الدين رحموني