لآلئ وأصداف – من التفكير إلى التفكر (1) 1


من الكتب التي يعتدّ بها، لعباس محود العقاد، كتاب: (التفكير فريضة إسلامية)، وهو كتاب يدخل في إطار المشروع الفكري الإسلامي الذي اضطلع به العقاد، دفاعا عن الإسلام، ضد الشبهات التي كانت يزرعها، ليس المستشرقين فقط، بل أيضا أولئك الذين دعاهم الأستاذ محمود محمد شاكر (المتمشرقين) من أبناء جلدتنا الذي ينفخون في كير أعداء الأمة، ويزعمون نفي التفكير والعقلانية عن كل ما هو إسلامي. وقد حشد العقاد من النصوص المؤيدة لآرائه شيئا كثيرا، بالإضافة إلى ما أوتي من قوة الجدل، وبيان الحجة، وهو الذي قال عنه سعد زغلول يوما إنه كاتب جبار المنطق، مما جعل العقاد يقول عن نفسه، باعتداده المعهود: “إنني كاتب الشرق بالحق الإلهي”.
ومع ذلك، فإن معظم الآيات التي استشهد بها العقاد كانت عن (التفكّر) لا عن (التفكير). وعلى ما يعرف عنه من التتبع الدقيق للمسائل العويصة، لم يلتفت إلى الفرق بين الكلمتين، أو لم يدعنا إلى التأمل فيهما.
لو تدبرنا كتاب الله ، وتتبعنا مادة (ف.ك.ر) فيه، لتبين لنا كيف يميز القرآن الكريم بين (التفكير) و(التفكّر). فقد وردت مادة (ف.ك.ر) مرة واحدة، دالة على التفكير، في صيغة الفعل الماضي، وذلك في سورة المدثر (18 – 20): {إنه فكر وقدّر فقُتلَ كيف قدّر ثم قُتِل كيف قدّر}. وقد جاءت في معرض ذمّ الوليد بن المغيرة، في حكمه على القرآن الكريم بقوله: إن هذا إلا سحر يوثر إن هذا إلا قول البشر . في حين وردت المادة نفسها، دالة على التفكّر، سبع عشرة مرة، في صيغة الفعل المضارع، ليس غير، مثبتا ومنفيا، في كل من سورة البقرة، 214، 266، وآل عمران، 191، والأنعام، 50، والأعراف، 176، 184، والروم،8، 21، والرعد، 3، والنحل، 11، 44، 69، ويونس، 24، والزمر، 42، والجاثية، 13، والحشر، 21. وفي كل هذه المواضع جاءت المادة تدعو إلى التفكر، وتمدح الذين يتفكرون، وتذم الذين لا يتفكرون.
فما الفرق بين التفكير والتفكر؟ ولماذا جاء ذم التفكير وحمد التفكّر في كتاب الله ؟ هذه أسئلة لا تجيبنا عنها المعاجم العامة ولا الخاصة، فلو رجعنا إلى مفردات الأصبهاني لوجدناه يقول: “الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم”، وهي عبارة شديدة الإبهام. وربما أزالت عبارة الجرجاني في (التعريفات) بعض الإبهام حيث قال: “الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول”. ويقول صاحب المفردات عن التفكّر إنه: “جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي: “تفكّروا في آلاء الله ولا تفكّروا في الله”، إذ كان الله منزّها أن يوصف بصورة”.
ولكنه عندما استعرض الآيات جعل آية التفكير وآيات التفكّر على صعيد واحد، ولم يميز بينها بشيء، فلم نكد نخرج بتصور واضح عن الفرق بين التفكير المذموم والتفكّر المحمود. وإذن لا يبقى أمامنا إلا أن نستعرض تلك الآيات في سياقها، مستعينين ببعض ما قاله أهل التفسير، إن كان عندهم من غناء. وقد نظرت فيما قال المفسرون فوجدت أكثرهم لا يفرق ما بين (فكر) و(تفكّر) ويوردهما في سياق واحد. فهذا الواحدي، مثلا، يقف عند قوله تعالى: إنه فكر وقدر ويقول: “وذلك أن قريشا سألته ما تقول في محمد فتفكر في نفسه وقدر القول في محمد والقرآن ماذا يمكنه أن يقول فيهما”. وقال الفخر الرازي: “يقال: فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاما وهيأه وهو المراد من قوله: فقدر “، فجعل فكّر وتفكّر شيئا واحدا.
فإذا جئنا إلى المعاصرين وجدنا الإمام المراغي يقول: “أي إنه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعن في القرآن، وما يختلق فيه من المقال، وقدره تقديرا، أصاب به ما في نفوس قريش، وما به وافق غرضهم. والخلاصة: إنه فكّر وتروى ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به، حين سئل عن ذلك” ولم يزد. وعلى الرغم من عناية سيد قطب رحمه الله بالبيان لم يقل في ذلك شيئا. وقال ابن عاشور: “وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره. ومعنى (فكر) أعمل فكره، وكرر نظر رأيه، ليبتكر عذرا يموهه ويروجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس، ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي “. وقد اقترب ابن عاشور رحمه الله من إصابة المفصل، إذ ربط التفكير بطلب التمويه، والترويج على الدهماء، لا بطلب الحق. فكأن التفكير هو نوع من الاحتيال، في حين أنّ التفكّر لا يؤدي بصاحبه إلا إلى الحق. وقال جواد مغنية: “فكّر في أمر القرآن، وأجال فيه رأيه، وهيأ له قول الزور والافتراء، وهو أن القرآن سحر يؤثر كما يأتي فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر . لعن ثم لعن في تفكيره وتقديره وأقواله وأفعاله وجميع مقاصده”. وقال محمد عزة دروزة: “إنه فكر وقدر: بمعنى استنتج وحسب بعد التفكير”.
هكذا نجد معظم المفسرين يجعل التفكير والتفكر شيئا واحدا، عند الوقوف على آية المدثر، وقليل منهم من التفت إلى الفرق الدقيق بين الكلمتين. فما عسى يقال عن الآيات التي وردت فيها صيغ التفكر، في آيات متعددة، مثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (سبأ: 46).
هذا ما نقف عنده في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.
د. الحسن الأمراني


اترك رداً على منى القاسم إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “لآلئ وأصداف – من التفكير إلى التفكر (1)

  • منى القاسم

    التفكير عمليه عقليه تحتمل الخير او الشر
    التفكر عمليه عقليه لا تحتمل الا الخير
    التفكر عمليه عقليه اشف وارقى من التفكير تسمو بها النفس وتطهر ..