العديد من الألفاظ التي تدور عندنا في الدارجة المغربية قد تُحسَب في ظاهر الظن ألا علاقة لها بالعربية الفصحى. لكن عند الرجوع إلى المعاجم نجد أن هذه الألفاظ عربية أصيلة، أو على الأقل أن أصلها كذلك. ومن هذه الألفاظ أسماء بعض الأطعمة، والتي منها:
“الحريرة”: وهو لفظ عربي، ورد في المعاجم وكتب الأطعمة، فضلا عن الشعر وكتب الحديث. وملخص ما ورد فيها ما يلي:
الــحَرِيرَةُ: الحِسَاءُ مِن الدَّقِيق والدَّسَمِ، وَقيل: دَقِيقٌ يُطْبَخُ بلَبَنٍ أَو دَسَمٍ. وقيل: الــحَرِيرَةُ: الحَسَا الْمَطْبُوخُ مِنَ الدَّقيق والدَّسَم والْمَاء.
وقد اشتق من اللفظ صيغ فعلية؛ جاء في أساس البلاغة: واسْتَحْرَرْتُ فُلانَة فحَرَّرَتْ لِي وَحَرَّتْ: طلبت منها حريرة فعملتها لي.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: ذُرِّي وَأَنَا أَحُرُّ لَكِ، يَقُولُ: ذُرِّي الدَّقِيقَ لأَتَّخِذَ لَكِ حَرِيرَةً.
ومعنى هذا أن “الحريرة” حساء معروف يشكل الدقيق أحد مكوناته الأساسية. ولشهرتها وانتشارها ورد ذكرها في العديد من المصادر، واشتق من اسمها ما اشتق من مشتقات.
ولها نظائر وأشباه. من ذلك، تبعا لما ورد في المعاجم وغيرها:
العصيدة: وهي دقيق يُلَتُّ بالسمن ويطبخ.. وهي من الأطعمة العربية القديمة. قال الخليل بن أحمد: قلت لأبي الدُّقَيْشِ: ما العَصْدُ؟ قال: تقليبك الــعَصيدة في الطَّنْجير بالمِعْصَدة. تقول: عَصَدَ يَعْصِدُ عَصْداً. قلت: هل تعرفه العربُ العارِبَةُ ببواديها؟ قال: نعم! أما سمعت قول غِيلان -يقصد ذا الرمة-:
عَلَى الرَّحْلِ ممَّا مَنَّه السيْرُ عاصِدُ
أي: يُذَبْذِبُ رَأْسَه وَيَضطرب. وقَالَ اللَّيْثُ: الْعَاصِدُ هَاهُنَا الَّذِي يَعْصِدُ العصِيدة أَي يُدِيرُهَا وَيُقَلِّبُهَا بالمِعْصَدَة؛ شبَّه الناعسَ بِهِ لِخَفَقَانِ رأْسه.
وأصل العَصْدِ: اللَّيُّ. عَصَدَ الشيءَ يَعْصِدُه عَصْداً، فَهُوَ مَعْصُود وعَصيدٌ: لَوَاهُ؛ والعَصِيدَةُ مِنْهُ، والمِعْصَدُ مَا تُعْصَدُ به. ويقال أيضا: عَصَدْتُ العصيدة وأَعْصَدْتُها أَي اتخذتها.
ولذلك يلاحظ أن اللفظ له مشتقات عديدة، مما يعني أنه أصيل في الاستعمال العربي.
الخَزِيرَةُ: ويبدو أنها كانت في شكلين:
شكلٌ يشبِهُ العَصِيدَة، وَهُوَ اللَّحْم الغابُّ، أي البائت؛ يُقَطّع صِغاراً فِي القِدْرِ، ثمّ يُطْبَخ بالماءِ الْكثير والمِلْح، فَإِذا أُمِيتَ طَبْخاً ذُرَّ عَلَيْهِ الدَّقِيق فعُصِدَ بِهِ، ثمّ أُدِمَ بأَيّ إِدامٍ شِيءَ، وَلَا تَكُونُ الخَزِيرَةُ إِلاَّ بِلَحْم. وإِذا كانَت بِلا لَحْمٍ فَهِيَ (عَصِيدَةٌ).
وشكلُ يكون في صورة مَرَقَةٍ من بُلالَةِ النُّخَالَةِ، وَهِي أَنْ تُصَفَّى البُلالَةُ ثمَّ تُطْبَخ. وقد قال بعضهم مفرقا بين الحريرة وبين الخزيرة رسمًا ومعنىً: الْخَزِيرَةُ بِالْخَاءِ وَالزَّاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ مِنَ النُّخَالَةِ، وَالْحَرِيرَةِ غَيْرِ الْمُعْجَمَتَيْنِ مِنَ اللَّبَنِ وَالدَّقِيقِ.
السَّخِينَةُ: دَقِيقٌ يُلْقَى على مَاءٍ أَو عَلَى لَبَنٍ فيُطْبَخ ثمّ يُؤْكَلُ بتَمْرٍ أَو بِحَساً، وَهُوَ الحَسَاءُ، قَالَ: وَهِي السَّخُونَة أَيضاً، وَهِي النَّفِيتَة، والحُدْرقَّة.
الْخَطِيفَةُ: وهي لَبَنٌ يُذَرُّ عَلَيْهِ دَقِيقٌ، فَيُطْبَخُ فَيَلْعَقُهَا النَّاسُ وَيَخْتَطِفُونَهَا.
كل هذه الأنواع من الأَحَاسِي (جمع حساء)، عرفت عند العرب بهذه الأسماء، ويبدو أن اختلاف وصف مكوناتها يرجع إلى اختلاف المناطق، أو إلى الاجتهاد في تغيير الطعم والمكونات. حيث إن كل منطقة كانت تتميز باستعمال معين لحساء من هذه الأَحَاسِي.
وكما هو واضح فإن الأمر لا يحتاج إلى تعقيب لبيان أن هذه الألفاظ بمعانيها متداولة في الدارجة المغربية، وخاصة الحريرة والعصيدة.
إلا أن الذي ينبغي التنبيه إليه هو الصيغة التي نسجت عليها هذه الأسماء، وهي كما يلاحظ على وزن “فعيلة”، الأمر الذي يعني أن يمكن اشتقاق أسماء على هذا الوزن للتعبير عن أي نوع من أنواع المأكولات؛ كـ”شطيرة” على سبيل المثال للتعبير عن “الأكلة الخفيفة” التي قيل ما قيل من أساطير عن ترجمتها، استهتارا بالعربية وتقليلا من مكانتها.
أ.د. عبد الرحيم الرحموني