رمضان ورخصة قيادة الذات وإدارتها 2/2


رمضان وقوة الإنجاز..
وهذا الشهر الكريم يعود الإنسان المسلم على الإنجاز، والإنجاز مهما كان حجمه هو محطات إصلاحية في الحياة، ولكن للأسف نجد أن أغلب الناس يريد أن يغمض عينا ويفتح عينا فإذا هو في نعيم! بل يريد أن تحل مشكلته خلال ساعات بدون جهد أو إنجاز فعلي، وهذا محال بل يتنافى مع أبسط السنن الكونية التي جعلها الله تعالى حاكمة لهذا الكون المعجز..
فإذا علمنا أن الإنجاز تكون بدايته الصحيحة في النفس، ومن داخل النفس.. فإننا نجد أن رمضان يُعلِّم الإنسان الإنجاز، ففي فترة ثلاثين يوماً مكثفة يصوم نهاره ويقوم ليله، فيشعر في نهاية شهره أنه حقق ربحاً كثيراً وأنجز عملاً عظيماً..
والناس بطبيعتها تبدأ متحمسة في إنجاز الأعمال، ولكن سرعان ما تخف الحماسة مع الأيام، أما في رمضان فيتعلم الإنسان كيف ينجز، إذ هي بداية قوية وبإرادة، فتصبح أقوى بعد أيام، فإذا طالت المدة تَقوَّت أكثر على غير عادة الكسالى والخائبين، وبدخول العشر الأواخر تزداد وتيرة العبادات وتُنشط الكسالى، حيث يطيل المسلم ليله في التعبد ونهاره في التلاوة والذكر خاصة إذا كان معتكفاً، فإن لم يكن ففي العمل والذكر والتلاوة.. فإذا قربت النهاية زيد في العمل فدخلت الليالي الأكثر بركة حتى آخر يوم من هذا الشهر الفضيل لا عجلة ولا ندم حتى تتم الأعمال كاملة.. وفي صحيح البخاري: ويغفر الله لهم في آخر ليلة ، قيل: يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟قال: «لا! ولكن العامل يوفّى أجره إذا قضى عمله».. وهكذا يكون الإنجاز الصحيح..
إذن ابدأ عملاً ثم كثّف أكثر ثم إذا قربت من الإنجاز فشد أكثر حتى تُتِمَّ العمل كله بإتقان وتمام.. وهذه من المهارات التي كادت تغيب في حياة المسلم.. فلنعمل على استرجاعها من خلال دورة الصيام التدريبية والتكوينية الرائعة والتي تجمع في موادها كل الأبعاد المكونة للشخصية الإنسانية السوية: الروحية، النفسية، العقلية، الصحية، الأسرية…
رمضان وقوة التجديد بالخروج عن المألوف..
الإنسان معتاد أن ينام في وقت ويستيقظ في وقت ويذهب للعمل في وقت ويعود ويأكل ويتسوق.. إلى غير ذلك من أمور دنياه المألوفة والتي يقوم بها في الغالب في وقت معين ومحدد، ولكن عندما يأتي شهر رمضان المبارك تتغير الأمور ويخرج عن المألوف و”الروتين” المستمر وتتجدد عليه الحياة بشكل جلي وواضح.. ويكاد يجمع الباحثون والعارفون في موضوع الإبداع على أن “الإبداع هو الخروج عن المألوف”، وما أحوج الإنسان في كل زمان وخاصة في هذا الزمان إلى الإبداع والتجديد، كما أن كسر”الروتين” والخروج عن المألوف أحد الأعمال الضرورية للتغلب على القلق وضغوط أحداث الحياة المختلفة..
فالتجدد والتجديد سمة من سمات هذا الشهر بل من سمات هذا الدين العظيم، ورمضان ما إن ينتهي حتى يأتي العيد فما يلبث حتى يأتي الحج بشهوره الحرم وبعده العيد.. وهكذا كل عام حتى لا تمل النفوس وحتى تتجدد وتنطلق من جديد.. والرسول يشير إلى هذه المهارة الذاتية بقوله لأبي ذر : «يا أبا ذر! جدد السفينة فإن البحر عميق، وخفف الحمل فإن السفر بعيد، وأحمل الزاد فإن العقبة طويلة، وأخلص العمل فإن الناقد بصير..»، فلنعمل على اغتنام فرصة دخول مدرسة الصيام، لتجديد حياتنا إيمانيا واجتماعيا، فكريا وسلوكيا، وليكن للتغيير مكان في جدولك اليومي والأسبوعي والشهري والسنوي كيما تصل إلى المبتغى من شهر التقوى..
رمضان وقوة تنظيم الوقت..
نحن نعلم أنه خلال شهر القرآن وفي ساعة محددة ومعينة يكون الإمساك، وفي ساعة معينة ومحددة يقع الإفطار، دقة والتزام وتنظيم، أغلب الناس لا يولي أهمية للوقت وتنظيمه ومن ثم لا يولي أهمية لحياته لأن الوقت هو الحياة، فالحياة عبارة عن وقت يمضي فتمضي، كما قال الحسن البصري رحمه الله: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم، ذهب بعضك!”.. وقد يحاول أناس –إذا كانوا من أهل التكاسل وقلة الدقة والإنجاز- أن يُخِلّو بالوقت، فيمسكوا قبل وقت الإمساك، سواء بعدم تأخير السحور كما يفعل البعض بتناول العشاء وعدم الاستيقاظ لصلاة الصبح.. أو بعدم الإفطار وقت الإعلان عن غروب الشمس بأذان المغرب.. وفي كلا الصنيعين خلل في التعامل مع الوقت ومع تنظيم الوقت.. والرسول يقول: «ما زالت أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور»، وفي رواية: «‏لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» (أخرجه مالك)، فالإفطار يجب أن يقع ساعة الإفطار لا تأخير ولو دقيقة واحدة، فهذا تنبيه منه على ذلك.. لاحظ كلمة “الخير” المشار إليها في حديثه ، فالخير كل الخير في ضبط الوقت واحترامه والالتزام بالمواعيد المحددة، وفي ذلك تربية وتدريب على تنظيم الوقت.. تلك المهارة المفقودة للأسف في حياتنا اليوم..
وفي شهر رمضان دقة والتزام وتنظيم للأوقات، فترى الأمة بكاملها تجلس على مائدة الإفطار تنتظر الإعلام بالفطور، والأمة بكاملها تمتنع عن الطعام والشراب والجماع ساعة الإمساك، وترى الأمة صافة صفوفها في الصلاة والقيام والتراويح.. وشيء عجيب لو كان لك أن تنظر إليه من أعلى أو تشاهده من بعيد، أمة في غاية النظام والدقة والترتيب.. وكأن الرسالة الموجهة لنا جميعا من خلال دورة رمضان: هكذا فلتكونوا يا خير أمة أخرجت للناس!
وهنا تنبيه إلى أن هناك من الناس من يخل في هذه الميزات فيكون هو السبب لا الشهر نفسه.. فعدم الاستفادة من رمضان يرجع إلى أسباب ذاتية، ومن هنا نفهم قول الله تعالى في آية فرضية الصيام لعلكم تتقون .
لعكم تتقــون دليل إمكانية الإصلاح خلال رمضان وتفيد التحقق.. بمعنى أن من أخذ بشروط الصيام إيمانا واحتسابا خلال هذا الشهر العظيم، حصل له الإصلاح المنشود، وتحول من الحسن إلى الأحسن، وأخذ رخصة القيادة الذاتية.. ومن أخل بما تقتضيه التقوى لم يحصل له المراد..
لذلك نقول أن الإصلاح وتحسين الأداء هو موضوع حيوي، والنفوس الطموحة ترغب فيه، فمن منا لا يريد أن يحسن مستواه المادي أو العلمي أو الاجتماعي أو النفسي أو الأسري إلى الأفضل؟ ولكن لذلك شروطا ثلاثة:
الرغبة: ونعني بها الرغبة الحقيقية في التزكية، فهناك كثيرين يقولون إنهم يريدون أن يتغيروا لكن في أعماق أنفسهم هم لا يريدون ذلك.
المعرفة: ونقصد بها معرفة كيفية الإصلاح، فالتطبيق ينبغي أن يكون مبنياً على معلومات صحيحة، والاستفادة من رمضان تتطلب التحقق والتخلق بالمعاني الواردة في الصيام، وليس التمني والعيش في عالم الأحلام الواهمة..
التطبيق: هناك أناس يريدون أن يتحسن حالهم وهم يعرفون أسباب ذلك وطرقه لكنهم لا يطبقون وبالتالي فهم لا يظفرون بالمراد. فالتطبيق فقط هو الذي يأتي بالنتائج، هناك أناس يحسنون الكلام لكنهم لا يحسنون التطبيق، والتطبيق بإصرار وعزيمة بعد معرفة الطريق الصحيح هو الذي يأتي بالنتائج المرجوة.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن بلغهم رمضان، وممن يحصل لهم التغيير الإيجابي في حياتهم، وينالون وسام نيل رخصة قيادة الذات وإدارتها

أ. محمد بوهو

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>