إن أول طريق النجاح في الحياة هو نجاحك في إدارة ذاتك وقيادتها، وفي التعامل مع نفسك بفعالية، وإن الفشل مع النفس يؤدي غالباً إلى الفشل في الحياة عموماً وربما إلى الفشل في الآخرة والعياذ بالله، يقول : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. والتغيير هنا قد يكون إيجابياً للأفضل، وقد يكون سلبياً للأسوأ، وقد يظهر لنا أن بعض الناس نجح في حياته وإن فشل في إدارة ذاته، والحقيقة أن ذلك وهم خادع وطلاء ظاهر تحته الشقاء والتعاسة التي ستنكشف عند أول هزة، وبئس النجاح المزعوم الذي في داخل صاحبه غياهب من الشقاء وأكداس من التعاسة وإن مرحت بصاحبها المراكب الفارهة وتبوأ في نظر الناس المناصب العالية أو امتلك الثروات الطائلة..
عزيزي القارئ.. هذا رمضان على الأبواب، فرصة العمر السانحة للتغيير، وموسم البضاعة الرابحة، والكفة الراجحة، لما حباه الله تعالى من المميزات، فهو بحق مدرسة لإعداد الإنسان، وتكوين الرجال، وتخريج الأتقياء، وهو بصدق جامعة تربوية وفرصة الجميع للتغيير، ومجال واسع للحصول على رخصة قيادة الذات وإدارتها..
نعم، رمضان دورة تدريبية للتغيير والتطوير الذاتي، ليصبح العبد من المتقين الأخيار، يتدرب فيها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء، والتسليم لحكمه في كل شيء، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء، وترك ما يضره في دينه أو دنياه أو بدنه من كل شيء، ليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعًا عن كل ما لا ينبغي، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (البقرة: 183)، فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تعليل لفرضية الصيام؛ ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العظمى، وهي تقوى الله تعالى، فرمضان دورة “تخريج المتقين” بامتياز!.. سأل الفاروق الصحابيَّ الجليل أبيّ بن كعب عن معنى التقوى ومفهومها فقال: “يا أمير المؤمنين! أما سلكت طريقًا ذا شوك؟! قال: بلى! قال: فما صنعت؟! قال: شمَّرتُ واجتهدت (أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه)، قال أُبي: فذلك التقوى!”
أولا: رمضان دورة التخلُّق الإيجابي وفرصة لانطلاق التغيير المنشود
يرى علماء النفس المُحدَثون أن أي تغيير يجب أن يكرر من 6 إلى 21 مرة، أي أنك إذا أردت أن تُحدث تغييرا حقيقياً في جانب ما من حياتك، فلا بد أن تكرر نجاحاتك في تلك الزاوية من 6 إلى 21 مرة.. وشهر رمضان 29 إلى 30 يوماً هذا يعني الاستمرار في النجاح في هذه العبادة العظيمة 30 يوماً= 30 مرة؛ تمسك في الصباح وإلى المغرب فلا تشرب ولا تأكل ولا تجامع ولا تسب ولا تفسق، هذا تخلُّق إيجابي أكيد، وترسيخ لشخصية مسلمة راقية.. ولهذا لا تجد مسلماً صام رمضان إيمانا واحتسابا، وبعد شهر واحد من حياته إلا وقد تأثر في العبادة وإلى الأبد، فهذه صفة عظيمة في شهر رمضان، صيام شهر واحد بأكمله أفضل نفسياً وخلقيا من صيام متقطع غير مؤقت 60 يوماً أو حتى 600 يوم!.. طبعا هذا لا يقلل من شأن الصيام المتقطع، فصيام أي يوم له فوائد كثيرة وفضل عند الله تعالى كبير،ولكن نحن نتحدث عن فضائله في التخلّق الإيجابي والإصلاح المستمر، فالاستمرارية لها بالغ الأثر في ترسيخ الأخلاق الحميدة في الذات وتقوية الإرادة في إدارة الذات.. ولهذا السبب تجد أن الإسلام نهى عن الإفطار طيلة أيام رمضان لمن ليس له عذر، وأن الشخص الذي أفطر لا يعوض ذلك اليوم ولو صام الدهر كله لما لتوالي أيام الصيام طيلة الشهر الفضيل من أثر عميق في قلب طبيعة النفس البشرية من السلب إلى الإيجاب وبعمق كبير..
ثانيا: رمضان وقوة اتخاذ القرار:
من ميزات هذا الشهر الفضيل تعليمه للمسلم اتخاذ القرار، وهذا جانب مهم من جوانب قيادة الذات وإدارتها، فمشكلة المشكلات عند جل الناس عدم القدرة على اتخاذ القرارات في الحالات الضرورية له، والإنسان القوي إنسان صاحب قرار، الإنسان الضعيف متردد، والتردد لا ينشئ نفوساً ضعيفة فحسب بل يأتي بأمراض نفسية وجسمية عديدة.. التردد يبدأ صغيراً في اتخاذ قرارات صغيرة ثم يكبر مع البرمجة النفسية المتكررة، وأغلب أمور حياتنا تعتمد على قرارات بسيطة وصغيرة، فكل ثانية تمر في حياتنا فيها مجموعة قرارات، كحركات يدك ورجلك ونبض القلب إلى غير ذلك، كل ذلك قرارات يتخذها العقل بوعي أو بغير وعي في الدقيقة والثانية بل والجزء من الثانية..
تصور وقوع تردد في مثل هذه القرارات، إن ذلك بلا شك يعني مشاكل كثيرة صحية ونفسية.. فمن المشاكل الصحية عدم انتظام دقات القلب وبالتالي أمراض قلبية وهضمية ودموية ذلك أن القلب يعين في ضخ الدم إلى الجسم كله، وقد يتسبب التردد في تردد الخلايا الدفاعية من القيام بمهمتها على وجه صحيح فتتردد في مواجهة الالتهابات والسرطانات والفيروسات، وفي ذلك خطر عظيم.. الخ. على أية حال نريد أن نقتصر في هذه العجالة على الأثر النفسي فقط للحصول على دفعة في التغيير، وإلا فالمجال واسع في فضائل رمضان الصحية وهذا المقال ليس مجاله..
كيف تتم تقوية الإرادة في اتخاذ القرار في شهر رمضان؟
إنه بسبب تعود الإنسان المسلم على المحافظة على نيته في الصيام، وتبييت نية الصيام، لأنه يعلم أنه بدون هذه المقدمة الضرورية يكون صيامه مردودا، يقول رسول الله : «من لم يُبَيِّت الصيام من الليل فلا صيام له» (رواه أبو داود)، وقال أيضا: «لا صيام لمن لم يفرضه بالليل»..فإن هذا المنهج وهذا البرنامج اليومي يعود المسلم اتخاذ القرار لليوم الموالي، ولو تأملنا في فحوى هذا القرار لوجدناه شاملا لعدة قرارات مندرجة تحته:
اتخاذ القرار بالإمساك عن شهوتي البطن والفرج،
القرار بحفظ اللسان والجوارح الأخرى،
القرار بالإنفاق من القليل والكثير..
واتخاذ القرار قوة ومعيار قوة إرادة الإنسان، فكلما جدد نيته في الصيام وأسرع في اتخاذ القرار بذلك، ثم بالإمساك وقت الإمساك، وبالفطور وقت الفطور.. كلما عود نفسه اتخاذ القرار بسرعة وباستمرارية، حتى يصبح متعودا على اتخاذ القرارات بسهولة ويسر، وهذه هي بداية إدارة الذات وتسيير دفتها نحو الخير والعطاء والصلاح والفلاح..
أ. محمد بوهو
—————–
مدرب معتمد في التنمية الذاتية ومستشار أسري..