رمضانيات في الشعر العربي


يقول الفيلسوفُ الألماني هيغل: “إن الشعر فن كوني”؛ وهو يقصد بذلك أن الشعر موجود في كل الثقافات العالمية؛ لكنَّ للشعر العربي في النفوس إيقاعا شجيا آسرا، ولا زال هذا الشعر شاهدا على ثقافتنا وحاملا لقيمنا؛ ولازال النقاد المعاصرون يغوصون في نصوصه، ويستحمون في مياهه، ويحفرون عميقا تحت أنقاض أتربته لاستخراج الجواهر والدرر؛ ويخوضون في أصقاع نقدية لسبر جمالياته. ولم يترك الشاعر العربي غرضا ولا موضوعا؛ إلا وقال فيهما شعرا، ولا مناسبة إلا وقال فيها قصيدة؛ فما أن يطل هلال شهر رمضان المبارك إلا وفاضت قريحة الشاعر، فيقول حسين عرب مرحبا بقدومه:
بشرى العوالم، أنت يا رمضانُ
هتفت بك الأرجاءُ والأكوانُ
والشعر والأكوان، وهي عتية
ينتابها لجلالك الإذعانُ
لك في السماء كواكب وضاءة
ولك النفوس المؤمنات مكانُ
الشرق يرقب في هلالك طالعا
يعنو لديهم، الكفرُ والطغيانُ
وبك استهام فؤاد كل موحد
يسمو به الإخلاص والإيمانُ
سعدت بلقياك الحياة وأشرقت
وانهل منك جمالُها الفتانُ
وتعلمت عنك الحصانة والحجى
فانجاب عنها، الهم والخذلانُ
وتذكرت فيك العروبة مجدها
هل مجدها إلا الدمار يصانُ
يا باعث الآمال تخفق ثرة
بالخير ليس يشوبها بهتانُ
ومحرر الأخلاق، من قيد الهوى
إن عمها من زيغه طوفانُ
بشراك، تفتر الثغور، لوقعها
جذلا، ويخفق خاطرٌ وجنانُ
يا مشعلا قبس الحقيقة، بعد أن
أعيت عن استقصائها، الأذهانُ
أشرق بنورك في الربوع، وكن لها
أملا، يزول بلمحه العدوانُ
في هذه المقطوعة يحضر الجناس غير التام (رمضان/الأكوان/الإذعان/مكان/الطغيان/الإيمان…)، والجناسُ لونٌ من ألوان الجمال اللفظي، له أثر ووقع إيجابي وجمالي على أذن المتلقي، وهو ينشط ذهنه ويطرد السآمة عنه؛ واستعمله الشاعر ليبعث الأمل والحماسة في نفسية متلقيه من أجل استقبال رمضان بشوق وأمل.
وجاء في كتاب “بستان الواعظين ورياض السامعين”، قولُ شاعرٍ:
قل لأهل الذنوب والآثام
قابلوا بالمتاب شهر الصيامِ
إنه في الشهور شهر جليل
واجب حقه وكيد الزمامِ
وأقلو الكلام فيه نهارا
واقطعوا ليله بطول القيامِ
واطلبوا العفو من إله عظيم
ليس يخفى عليه فعل الأنامِ
كم له فيه من إزاحة ذنب
وخطايا من الذنوب عظامِ
كم له فيه من أياد حسان
عند عبد يراه تحت الظلامِ
كم له فيه من عتيق شهيد
آمن في القيام خزي المقامِ
إن دعاه مذلل بخضوع
وخشوع ودمعه (ذو سجامِ)
أين من يحذر العذاب ويخشى
أن يصلي الجحيم مأوى اللئامِ
أين من يشتهي التذاذا بحور
في جنان الخلود بين الخيامِ
التمس فيه ليلة القدر واترك
التماسا لها لذيذ المنامِ
واجتهد في عبادة الله واسأل
فضله عند غفلة النوامِ
يا لها خيبة من خاب فيها
عن بلوغ المنى بدار السلامِ
يا إله الجميع أنت بحالي
عالم فاهدني سبيل القوامِ
وأمتني على اعتقاد جميل
واتباع لملة الإسلامِ
فنلْحظ من خلال هذه الأبيات الشعرية حضورا للأفعال الأمرية (قل/قابلوا/أقلوا/اقطعوا/اطلبوا/ التمس/اجتهد/اسأل…)؛ وكأني بالشاعر يسطر وصاياه إلى المتلقي من أجل اغتنام شهر الصيام؛ وإذا كان من خصوصية الجملة الفعلية، التحرك والدينامية، فالشاعر يريد أن يربأ بالمتلقي من حال الذنوب والمعاصي إلى حالة التوبة والعبادة. وحضورُ حرف القاف في شطريْ البيت الأول دليلٌ على جلال هذا الشهر وقيمته عند الشاعر؛ وذلك لأن حرف القاف من الحروف المجهورة ومخرجها من أقصى الحلق؛ والشاعر يريد بذلك أن يسخّر كل قواه الصوتية لتنبيه الغافلين إلى هذا الشهر العظيم.
وينشد الشاعر محمد حسين فقي وقلبه يفيض شوقا وبهجة؛ كأنه ينتظر ضيفا عزيزا فيضفي عليه صفة الإنسان، فيقول:
قالوا بأنك قادم، فتهللت
بالبشر أوجهنا.. وبالخيلاءِ
وتطلعت نحو السماء نواظر
لهلال شهر نضارة ورواءِ
تهفو إليه، وفي القلوب وفي النهى
شوق لمقدمه وحسن رجاءِ
لك لا نتيه مع الهيام.. ونزدهي
لجلال أيام.. ووحي سماءِ؟
بهما نحلق في الغمام، ونرتوي
من عذبه.. ونصول في الأجواءِ
ونشف أرواحا فننهج منهجا
نقضي به لمرابع الجوزاءِ
ونصح أجسادنا، فلا نشكو الونى
أبدا، ولا نشكو من الأدواءِ
فنعود كالأسلاف أكرم أمة
وأعز في السراء والضراءِ
هكذا يستقبل الشعراء رمضان مبتهلين ومرحبين؛ باعتباره شهرَخيرٍ وبركةٍ وثوابٍ؛ فيقول الشاعرُ:
رمضان وافى الخلق بالخيرات
فاستبشروا باليمن والبركاتِ
واستقبلوا شهر الهدى بحفاوة
وخذوه بالأحضان والقبلاتِ
فالله جل جلاله قد حفه
بالنور والإيمان والبركاتِ
سبحانه فهو الذي قد خصه
دون الشهور بعاطر النفحاتِ
شهر إذا سميته بصفاته
سجلت شهر الصوم والصلواتِ
بل شهر ربي قد نزل الهدى
في ليلة جلت عن السنواتِ
إننا نجد في هذه المقطوعة الشعرية معجما روحيا (اليمن/البركات/النور/الإيمان/الآيات/النفحات/ الصلوات…)؛ وهذا يعكس اقتناع الشاعر بأن شهر رمضان شهر لتغذية الروح العطشى إلى التأمل والتدبر، ودعوته لتجديد الصلة بالله، والنهل من روض القرآن ومجالس الذكر.
أما الشاعرُ المغربيُّ عبد المالك البلغيثي، فيقول:
رمضانُ شهرُ الله في أيامنا
يمضي سريعا والذنوبُ تواقِي؟
من لم يطهره الصيامُ، فلم يكن
لحلول هذا الشهر بالتوّاقِ
رمضانُ ذكرى كل ناس دينه
فاذكر به فضل العزيز الباقِي
واتق به تلك الخطيئات التي
قد خلفتك، وجد في استلحاقِ
واعمل بصف المؤمنين مؤيدا
لتسوقك الأعمال كل مساقِ
كانت هذه وقفة عجلى عند قبسات روحانية في أشعار رمضانية؛ تعكس شهر رمضان في ذاكرة الشعراء؛ إلا أننا نقول: إن ما جاء في شعرهم يكاد يكون نظما منه أقرب إلى الشعر؛ وهذا أمر طَبَعِيٌّ لأنه يدخل في شعر المناسبات؛ لأن الشعر الحقيقي يكون من وحي اللحظة، والشاعر المتميز هو الذي يعيش حالة من المخاض مع قصيدته وبعد طول معاناة، وانفعال وجداني روحاني تأتي القصيدة محمّلة بالتخييلات كغيمة المزن الحبلى بقطران المطر. فالشعرُ رسالة وجمال، ولا جمال بدون رسالة؛ ولا رسالة بدون جمال، فالرسالية والجمالية قيمتان من قيم الإسلام.

ذ. محمد حماني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>