يُعرف العنف بأنّه سلوك عمدي موّجه نحو هدف، سواء أكان لفظيّا أو غير لفظي، ويتضمّن مواجهة الآخرين مادياً أو معنوياً، وهو مصحوب بتعبيرات تهديديّة، وله أساس غريزي ، ولابد في البداية من التمييز بين العنف كظاهرة سياسية عالمية وبين العنف الذي ينتشر في كل المجتمعات، ولا يحتاج أحد منا إلى تأمل أو تفكير لإصدار الحكم على مجتمعنا بأنه مجتمع ينتشر فيه العنف في كثير من المجالات، وهذا معناه أن صفة السلم بمعناها الحق تكاد تكون منتفية عن ذلك المجتمع البائس. وهذا لعمري مما يجعل شعورا عارما بالقلق والتمزق والانسحاق يهاجم الإنسان، ويخترق عالمه النفسي بقوة توازي أو تفوق قوة العنف الذي يؤثث فضاءنا في صورة تنضح بالشراسة والتغول، وتنذر بالكآبة والحزن والانهزام، وفي النهاية بالمحو والاستئصال.
ينطبق هذا الحكم على قطاع واسع من الناس الذين يفترض فيهم ضعف الممانعة النفسية، وضعف مغالبة صنوف الاستفزاز، وصنوف التحرش والعدوان التي لا تتوقف ولا تفتر، لما لها من ارتباط وطيد بخزان من الكيد والشر لا ينضب.
ويتراوح هذا العنف البغيض من اللفظة القاسية إلى اللكمة العاتية، إلى الطلقة القاتلة في مجتمع يبحث عن الأمن والسلام، في فضاء مزروع بالألغام، ومحاط بجحافل اللئام. فأنت لا تكاد تتنفس داخل مساحة من المساحات دون أن ينفذ غبار، بل شظايا العنف إلى خياشيمك وصدرك وأحشائك، فيصيبك شعور عارم بالضيق والاختناق والغثيان. عنف في المنزل يمر عبر التلفاز الذي يقصفك بلا هوادة بصور من البطش والاغتيال، ومن البؤس والإذلال، تنال إخوانا لك في الإنسانية والدين، في حلب الذبيحة وغزة الجريحة، وبصور عاتية من الفجور وقلة الحياء، تلبس لبوس الحداثة والفنون، عنف يفقأ عينيك الذاهلتين وأنت تجوس خلال الشوارع والدروب، ويخترق أذنيك وكل جوارحك وكيانك، وأنت تصارع من أجل إثبات ذاتك والذود عن حياضك وذِمارك، عنف لا يتورع عن ملاحقة أبنائك حتى وهم في عهدة المدرسة التي استودعتهم إياها، فإذا بها تخل بالأمانة وتنقض العهد، بل إنك لن تعدم صورا من العنف حتى ممن لا تتوقعه منهم في زمن اختلت فيه الموازين، وانقلبت المقاييس، عنف في الأخبار، عنف ينال الكبار والصغار، عنف من الأقارب والجوار، عنف يهتك الأعراض يمزق الأستار، عنف يهدم المنازل والديار.
ومن أغرب المفارقات في عالم يدمغه العنف بقبضته الخشنة، أن تصبح عنيفا رغم أنفك، إما بدافع الانسياق والانجراف مع أمواجه الطاغية بفعل المعايشة والامتصاص والمحاكاة، وإما تحت غطاء المعاملة بالمثل مع أناس يفترض فيهم المكر والخبث والدهاء، ولن يسلم من سلطان العنف الغاشم إلا نفوس تشبعت بقيم الإسلام وتمثلت قول الرسول الأكرم خير الأنام، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»، وقوله : «ليس الشديد بالصرعة؛ ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
إن مما يصيب العقلاء بالرعب والفزع، أن يتخذ العنف في مجتمعنا شكل سلسلة محكمة الإغلاق، أو منظومة عمياء، أو طاحونة عجفاء، تتغذى على ذميم الخصال وسيء الأخلاق، فتعيد إنتاج نسل سيء الأعراق يعيش على الشقاق والنفاق.
ولن يخرج مجتمعنا أو لن ينقذ سفينتنا إلا أوبة صادقة إلى واحة الإيمان، وديوان الفضائل ومكارم الأخلاق، نقتبس منه ما يطهرنا وينقي أرواحنا وأجسادنا من الرذائل والسموم، ويذيقنا رحيق السعادة الذي لا يتخلق إلا في قلوب تعلقت بالرحيم الرحمن، وتأست بالنبي العدنان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، مصداقا لقول الله : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب: 33).
د. عبد المجيد بنمسعود