العبادة والتعبد والعبودية في ضوء المنهجية الإسلامية


مع قرب الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك؛ يحسن بنا أن نقدم بين يدي قدومه المرتقب كلمة عن العبادة والتعبد والعبودية، تهيئة للنفوس وحفزا لها نحو عبادة صحيحة، وضبطا لمسلك المسلم في جانب التعبد والعبادة ليتحقق مضمون العبودية المنشودة.
أما العبادة فهي: طاعة مع خضوع وتذلل كما عبر كل من الراغب والزجاج، ويعتبر الراغب أن العبادة أبلغ في معناها من العبودية، فيقول في المفردات: “العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل”، والتعبد هو فعل العابد العبادة، وهو مصدر فيه معنى التكلف في القيام بالطاعة للتعود عليها ومداومة فعلها.
والعبادة غاية خُلِقَ الجن والإنس لتحقيق مضامينها في حياتهم، فقد الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56). ودعا إليها رسل الله قاطبة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ (النحل: 36).
إضاءات وإلماحات في العبادة والتعبد والعبودية:
العبودية لله أشرف مقامات العبد وأحواله: ليعلم العبد أن تمام حريته في تمام عبوديته، كما هي عبارة أحمد بن خضرويه ، و”الحرية آخر مقامات العارف” كما عبر الجنيد رحمه الله، ويقصد بالحرية أن العارف لا تسعبده أمور الدنيا، فهو متحرر منها على سبيل التمام، داخل في مقام العبودية التامة، فينال بذلك المعنى الحقيقي للحرية، وهو تحرر من أهواء النفس وسلطانها، وتحرر من مشاغل الدنيا وزينها، وتحرر من كل الأغيار، والدخول في العبودية لله تعالى مطلقا، وبهذا ينال العبد أشرف مقام وأسمى وسم، وقد قال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبده
فإنه أشرف أسمائي.
وقد نسب إلى القاضي عياض رحمه الله قوله:
ومما زادني عجبا وتيها
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت أحمد لي نبيا.
لا يعبد إلا الله تعالى ولا يعبد إلا بما شرع: قد تأخذ بعض العابدين رغبته الجارفة في فعل الخيرات ونشوته الإيمانية في زيادة التعبدات، فيأتي بوجوه من العبادات لم تأت بها التشريعات، فيدخل بذلك في مجال الابتداع، فيحيد عن الجادة بتلبسه بذلك، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: “والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان أحدهما: أن لا يعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من الأهواء والبدع. قال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد (الكهف: 110).
العبادات متنوعة وباب الخيرات والتعبدات واسع: فهو يسع كل راغب في الخير على قدر جهده ورغبته وهمته، بحيث لا يبقى لأحد عذر في ترك الخير، فقد نوَّع الشرع الحنيف الخير أنواعا تناسب بتنوعها كل أحد مهما كان حاله، فمن العبادات ما هو بالليل ومنها ما هو بالنهار، ومنها القلبي الذي لا يسقط عن أحد، ومنها الجسدي، ومنها اللساني ومنها المالي، ومنها العقلي ومنها الجماعي والفردي، ومنها الاجتماعي والاقتصادي…إلخ، وقد دعا الإسلام إلى اتقاء النار ولو بشق تمرة، وقال رب درهم سبق ألف درهم.. وعلى المسلم أن يأخذ حظه من هذه الأبواب، ويضرب بسهم ما استطاع في جنباتها، وهنا يرد حديثان شريفان:
أولهما: حديث أبي هريرة في الصحيحين، يقول النبي : «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان، فقال أبو بكر ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر».
والحديث الثاني: وهو كذلك في الصحيحين: عن أبي هريرة :”أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله، قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. قال «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله : «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة: ثلاثا وثلاثين مرة»”. قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله : «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».
ومن هذين الحديثين نجد السعة والتنوع في أمر التعبد والعبادات، سعة رحمة الله تعالى لخلقه، فلم يقصر العبادات على لون واحد يقوى عليه صنف من الناس ويضعف عنه آخرون؛ إنما نوَّع سبحانه طرق الوصول إليه وجعلها في متناول الجميع، بحيث لا يحرمها إلا من حرم نفسه وأدخل نفسه طريق الخذلان، تلك بعض الإضاءات والإلماحات في مجال التعبد في المنهجية الإسلامية نكملها في مقالين تاليين إن شاء الله تعالى.

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>