إن الناظر في واقع المسلمين اليوم مع حلول شهر رمضان يلحظ بونا شاسعا بيننا وبين السلف الصالح في الانتفاع بالصيام، فهم رحمهم الله لم يعرفوا كسلا ولا مللا، بل صاموا بإحسان ورتلوا القرآن وتدبروه، وحفظوا ألسنتهم و جوارحهم، وأطعموا الطعام، فحققوا مقاصد الصيام وانتفعوا بثماره.
ولعل أصدق كلام في بيان أحوال السلف والخلف في رمضان ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله: ما أعظم الفارق بين صيامنا وصيام أسلافنا، أما أسلافنا فقد جنوْا ثِماره، وتفيؤوا ظلاله، واستمدوا منه روح القوة وقوة الروح، كان نهارهم نشاطًا وإنتاجًا وإتقانًا، وكان ليلهم تزاوُرًا وتهجدًا وقرآنًا، وكان شهرهم كله تعلمًا وتعبدًا وإحسانًا…
وبجوار هؤلاء المحسنين خلف سوء، لم ينتفعوا برمضان، ولم يستفيدوا بما فيه من صيام ولا قيام. جعله الله للقلب والروح فجعلوه للبطن والمعِدة، جعله الله للحِلْم والصبر فجعلوه للغضب والطيش، جعله الله للسكينة والوقار فجعلوه شهر السباب والشجار… .
وهذه نماذج من أعمال السلف الصالح في رمضان لعلها توقظ الهمم وتحيي العزائم في شهر القرآن شهر البركة والغفران.
أولا: حال السلف مع القرآن في شهر القرآن:
فرمضان هو شهر القرآن لقوله تعالى: ﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾(البقرة: 185)، لذلك حرص السلف الصالح على الاهتمام بالقرآن تلاوة وتدبرا ومدارسة، فعن إبراهيم النخعي قال: الأسود بن يزيد يختم القرآن في رمضان في كل ليلتيْن، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ ، وقد كان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين ، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يغلق الكتب في رمضان ويقول: هذا شهر القرآن، وكان الإمام مالك رحمه الله لا يفتي ولا يدرس في رمضان ويقول: هذا شهر القرآن.
فإقبالهم على القرآن في رمضان اقتداء برسول الله حيث كان جبريل يعارضه القرآن ويدارسه في رمضان، فعن ابن عباس قال: «كان رسول الله يلقاه -أي جبريل- في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن».
ثانيا: حال السلف في القيام بالقرآن في رمضان:
قيام الليل هو دأب الصالحين وسبيل المفلحين، وهو من أسباب مغفرة ذنوب العباد في رمضان، قال النبي : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فالسلف الصالح صاموا أحسن الصيام وقاموا أفضل القيام، فعن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما بإحدى عشرة ركعة في رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر .
قال ابن الجوزي: واعلمْ أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات.. الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء، الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل، الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سُدس الليل أو خمسه، الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام، الطبقة السادسة: قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين، الطبقة السابعة: قوم يُحيون ما بين العشاءين ويُعسِّـلون في السحر فيجمعون بين الطرفين».
ثالثا: حال السلف في حفظ اللسان:
من مقتضيات الصيام كف اللسان عن اللغو والفحش والصخب، فقد ورد في الحديث القدسي عن أبي هريرة عن النبي قال: «قال الله : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب…»، فالفحش في القول والباطل مناف للصيام. قال رسول الله : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، قال المهلب: وفيه دليل أن حُكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقَّص صيامه، وتعرض لسخط ربه وترك قبوله منه .
لذا كان السلف الصالح رحمهم الله يمسكون عما فضل من الكلام لنيل الأجر العظيم، وقد روي أن طلق بن قيس إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاَّ لصلاة، وعن أبي العالية قال: الصائم في عبادة ما لم يغتب.
رابعا: حال السلف مع الوقت في رمضان:
فالوقت من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده، وقد أقسم الله تعالى في كتابه الكريم بالعصر والليل والنهار والضحى… للتنبيه على أهمية الوقت، وقد رغبت السنة النبوية في اغتنام الأوقات بالطاعات والقربات خصوصا في رمضان؛ لأنه زمن فاضل مبارك، كما قال رسول الله : «أتاكم رمضان شهر مبارك…». قال شعبة: لا تجلســـوا فارغين فإن الموت يطلبكـــم ، وقال الحسن: ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضك ، وقال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمــل فيهمــا ، وقال ابن مسعود : ما ندمــت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي .
خامسا: جود السلف في رمضان:
أما الجود في رمضان فقد كانوا مسارعين إليه رحمهم الله اقتداء برسول الله الذي كان أجود الناس؛ بل جوده في رمضان كالريح المرسلة بالخير، فعن ابن عباس قال: «كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة»، قال الشافعي رحمه الله: أحب للرجل الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم.
وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة، يقول يونس بن يزيد: كان ابن شهاب إذا دخل رمضان، فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.
هكذا صام السلف الصالح، صاموا فأحسنوا الصيام، وقاموا فأحسنوا القيام، جعلوا نهارهم عملا واجتهادا، وليلهم استغفارا وتهجدا، فجنوا ثمار الصيام وتفيئوا ظلاله، ففازوا بفضل الدنيا وشرف الآخرة، ويرجع ذلك بسبب فهمهم لمعاني الصيام ومعرفتهم بمقاصده ومراميه.
فما أحوجنا اليوم إلى الاقتداء بالسلف الصالح ليكون صيامنا فرصة لإصلاح الأنفس وتزكيتها وعلاجها من أدوائها، وقيامنا زيادة في الإيمان وتقربا من الرحمان، وقراءة القرآن سببا لإصلاح المجتمع وتماسكه وتعاونه على البر والتقوى، ليعود للأمة مجدها وعزها المفقود منذ عقود.
د. حميد السراوي