قال الله تعالى:
﴿{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}
(الذاريات: 24-28).
ذكر المفسرون معاني ودلالات وأسرارا لهذه الآيات، ذات صلة بشيخ المرسلين إبراهيم ، وبقوم لوط الذين أخذهم الله بالعذاب، وبالملائكة الذين نزلوا على إبراهيم وقد أُرسلوا إلى قوم لوط لتنفيذ هذا العذاب، كما أشاروا إلى ما في هذه القصة من تسلية لنبينا محمد . ووقفوا أيضا على ما ورد في هذه الآيات من تعبير جمالي عن الكرم المتميز لإبراهيم .
ومن بين الوقفات المتميزة ما قاله ابن القيم رحمه الله، وهو يفسر هذه الآيات، حيث قال:
“ففي هذا ثناءٌ على إبراهيم من وجوه متعددة.
أحدها: أَنه وصف ضَيفه بِأَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ إكْرَامُ إبْرَاهِيمَ لَهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُكْرَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ. وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فالآية تدل على معنيين.
الثاني: قَوْله تَعَالَى إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِئْذَانَهُمْ؛ ففي هذا دليل علىِ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِإِكْرَامِ الضِّيفَانِ وَاعْتيادِ قِرَاهُمْ، فصار مَنْزِلُه مَطْرُوقًا لِمَنْ وَرَدَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانٍ، بَلْ اسْتِئْذَانُ الدَّاخِلِ دُخُولُهُ. وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ.
الثالث: قَوْلُهُ لَهُمْ سَلَامٌ بِالرَّفْعِ، وَهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ سلاماً .. وَالسَّلَامُ بِالرَّفْعِ أَكْمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، وَالْمَنْصُوبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ سَلَامًا يَدُلُّ عَلَى سَلَّمْنَا سَلَامًا . وَقَوْلَهُ سَلَامٌ أَيْ “سَلَامٌ عَلَيْكُمْ”.
الرابع: أَنَّهُ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ مِنْ قَوْلِهِ قَوْمٌ مُنْكَرُون ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ احْتَشَمَ مِنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِلَفْظٍ يُنَفِّرَ الضَّيْفَ لَوْ قَالَ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فحذف المبتدأ “أنتم” هنا من ألطف الكلام.
الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول، وحذف فاعله، فقال: منكرون وَلَمْ يَقُلْ إنِّي أُنْكِرُكُمْ: وَهُوَ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّنْفِيرِ، وَالْمُوَاجَهَةِ بِالْخُشُونَةِ.
السادس: أَنَّهُ رَاغَ إلَى أَهْلِهِ لِيَجِيئَهُمْ بِنُزُلِهِمْ. وَالرَّوَغَانُ هُوَ الذَّهَابُ فِي اخْتِفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْعُرُ بِهِ الضَّيْفُ. وهذا من كرم رب المنزل المُضَيِّف: أن يذهب في اختفاء بحيث لا يَشْعُرُ بِهِ الضَّيْفُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَحْيِ. فلا يَشْعُرْ بِهِ إلَّا وَقَدْ جَاءَهُ بِالطَّعَامِ، بخلاف من يسمع ضيفه وهو يقول له، أو لِـمَنْ حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.
السابع: أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِالضِّيَافَةِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعَدًّا عِنْدَهُمْ مُهَيَّأً لِلضِّيَافَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْهَبَ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ جِيرَانِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَشْتَرِيَهُ، أَوْ يَسْتَقْرِضَهُ.
الثامن: قوله: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ يدل عَلَى خِدْمَتِهِ لِلضَّيْفِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ فَأَمَرَ لَهُمْ، بَلْ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ وَجَاءَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مَعَ خَادِمِهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إكْرَامِ الضَّيْفِ.
التاسع: أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببضعة منه. وهذا من تمام كرمه .
العاشر: أنه سمين لا هزيل. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْخَرِ أَمْوَالِهِمْ وَمِثْلُهُ يُتَّخَذُ لِلِاقْتِنَاءِ وَالتَّرْبِيَةِ فَآثَرَ بِهِ ضِيفَانَهُ.
الحادي عشر: أنه قَرَّبَه إليهم بنفسه، ولم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر: أَنَّهُ قَرَّبَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَرِّبْهُمْ إلَيْهِ؛ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْكَرَامَةِ؛ أَنْ يَجْلِسَ الضَّيْفُ، ثُمَّ تُقَرِّبَ الطَّعَامَ إلَيْهِ وَتَحْمِلَهُ إلَى حَضْرَتِهِ، وَلَا تَضَع الطَّعَامَ فِي نَاحِيَةٍ، ثُمَّ تَأْمُر ضَيْفَك بِأَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ.
الثالث عشر: أنه قال: أَلا تَأْكُلُون وَهَذَا عَرْضٌ وَتَلَطُّفٌ فِي الْقَوْلِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا وَمُدُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَنَحْوِهِمَا، وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ حُسْنَهُ وَلُطْفَهُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ أَلَا تَتَصَدَّقُوا، أَوْ أَلَا تُجْبِرُوا، ونحو ذلك.
الرابع عشر: أَنه إِنَّمَا عرض عَلَيْهِم الْأكل لِأَنَّهُ رَآهُمْ لَا يَأْكُلُون، وَلم يكن ضيوفه يَحْتَاجُونَ مَعَه إِلَى الْإِذْن فِي الْأكل، بل كَانَ إِذا قدم إِلَيْهِم الطَّعَام أكلُوا وَهَؤُلَاء الضيوف لما امْتَنعُوا من الْأكل قَالَ لَهُم أَلا تَأْكُلُونَ ، وَلِهَذَا أوجس مِنْهُم خيفة، أَي أحسها وأضمرها فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم. وَهُوَ الْوَجْه:
الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم، ولم يظهر لهم الخوف منهم. فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام الحليم…
فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آدَابَ الضِّيَافَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْآدَابِ، وَمَا عَدَاهَا مِنْ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي هِيَ تَخَلُّفٌ وَتَكَلُّفٌ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ، وَكَفَى بِهَذِهِ الْآدَابِ شَرَفًا وَفَخْرًا، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَى إبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِهِمَا، وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ.
إعداد:
أ.د. عبد الرحيم الرحموني