«كفَى بالمرء كذِبًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمِع»؛ حديث صحيح رواه الإمام مسلم في المقدمة.
قَالَ النَّوَوِيّ: “فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِب، فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ. وَالْكَذِبُ: الإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ، وَلا يُشْتَرَط فِيهِ التَّعَمُّدُ”.
ومن ثم فإن الحديث يشير إلى آفة اجتماعية خطيرة تتجلى في نقل الخبر الكاذب دون تثبت، حتى وإن لم يكن الأمر متعمدا. فكيف بمن يتعمد ذلك، فيُنْتِجُ الخبرَ إنتاجا، أو يَسمَعه ويؤوله ثم يحرفه ليذيع في الناس ما ليس صحيحا، بهدف الإساءة إلى الآخر، بغض النظر عمن هو هذا الآخر.
ولو وَزَنَّا ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي بميزان هذا الحديث لوجدنا أن عددا من مرتادي هذه الوسائل ومستخدميها –وقد باركوا شهر رمضان لأصدقائهم وللمسلمين ودعوا إلى التحلي بأخلاق الإسلام- لا يتوانون عن أمرين:
أولهما: نَقْلُ كل ما يُسْمَعُ دون التثبت، وبَثُّهُ عبر هذه الوسائل، وكثيرٌ مما يُسْمَعُ هو شائعات. من ذلك مثلا؛ ما تُنوقِل منذ أسابيع، عبر هذه الوسائل، من شائعة وفاة الدكتور الشيخ محمد راتب النابلسي، وصَدَّق العديد من الناس ذلك، وترحموا عليه –رحمه الله حيا وميتا- بينما الأمر كان شائعة فقط. ومن الطريف أن الشائعة نُقلت بعبارات الحزن والتأثر، مصحوبة بما قيل إنه آخر شيء قاله، الخ… حفظه الله وبارك فيه.
وقبل أيام أرسل إلي أحد الأعزاء ما نصه: “قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الْقَلِيلِ، فَقَالَ: عُمَرُ: مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُو بِهِ؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ فَأَنَا أَدْعُو أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ، فَقَالَ: عُمَرُ: “كُلُّ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْ عُمَرَ””. فاستغربت من أن يقول عمر مثل هذا، وكان قد مَرَّ بي أنه سمع رجلا يدعو بهذا الدعاء، فأنكر عليه قائلا: “عَلَيْكَ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَا يُعْرَفُ”. فعُدت إلى المصادر لأتثبت، فوجدت أن الروايتين مثبتتان في المصادر، لكن الرواية الأولى التي فيها: “كُلُّ النَّاسِ أَعْلَمُ مِنْ عُمَرَ”، وقد رويت بأكثر من صيغة، روايتها منقطعة، وفيها ضعف من قبل رواتها. فضلا عن أن سياق الرواية ينتقص من قدر عمر ، وأنه كان دون المستوى، مما يجد فيه الأعداء طعنا ومغمزا من مكانة الخليفة الثاني لرسول الله ، حتى وإن ساقها البعض في سياق تواضعه ، أو دليلا على أن السلف كان يقبل النصح ويستجيب له. لكن هذا لا يستقيم مع ما أُثِر من الحث على الدعاء بالمأثور، ومن ثم تبقى الرواية الثانية التي تتضمَّن الإنكار هي الأوثق.
هذان نموذجان من أبسط وأهون ما يمكن أن يدور في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضه أو أمثاله يُتناقل عن حسن نية. لكن الأدهى حينما تُتَبادل أخبار وأحداث ووقائع ونصوص لا أساس لها من الصحة على الإطلاق، بل وقد تُصْنَعُ صنعا من أجل الإساءة، ولا شيء غير الإساءة، فتُهَدَّم بيوت، وتُخَرَّب صداقات، وتُشَتَّت جماعات، ويُعْتَقَد بأفكار خاطئة، ويُؤْمَن بمعتقدات مُجانبة لحقيقة الإسلام وروحه، وأظن أن هذا من أكبر الكبائر، خاصة إن كان في هذا الشهر المبارك.
ثانيهما: ما يمكن أن يُرَى ويُسْمَعُ من سبٍّ وشتم وقذف، مما أصبح ديدن العديد من مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أكان ذلك بحق أو بغير حق. يلاحظ هذا كثيرا في الجوانب التي لها علاقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية. حتى إننا لنلاحظ أن البعض يوجه “رادارَه” ويثبته نحو الآخر، فيلتقط كل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو سلوك، ويوظفه بشكل مُشين، متأوِّلاً مُتَخرِّصاً، فإذا صلى فهو مُراء، وإذا تصدق فهو منافق، وإذا ضحك فهو مستهزئ، وإذا بكى فهي دموع تماسيح، واللائحة طويلة… ونسي هؤلاء –ونحن في شهر الصوم- قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق: 18)، وقوله : «كفَى بالمرء كذِبًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمِع»… فكيف بما لم يسمع !!؟؟.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَقُولَ زُوراً، أَوْ نَغْشَى فُجُوراً.
د. عبد الرحيم الرحموني