من نصوص الشرع، يعلم المسلم أن الصلاة بٌوّئت مكانة سامية في الإسلام ضمن أسس وأركان الدين؛ لأنها صنفت في المرتبة الثانية في سلم أولويات الواجبات الدينية. فالمسلم يؤمر بها بعد توكيد العهد والميثاق الذي أخذه رب العزة والجلال من البشرية جمعاء منذ أن كانت في أصلاب آبائهم، فقررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك وإقرارهم به. قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى (سورة الأعراف: 172).
أهمية المحافظة على الصلاة والتحفيز على ذلك:
والمسلم لا يضع الصلاة في المكان الذي وضعها الشرع فيه إلا إذا احترم الوقت المعين لها من الشرع الحكيم؛ ولذلك فإن المحافظة على أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها أمر مجمع عليه من قبل الأمة في جميع أيام السنة. غير أن ذلك يتأكد أكثر في شهر رمضان الأبرك لما علم من الشريعة الإسلامية أن الحسنة تعظم بعظم الزمان والمكان، وإن شهر رمضان أفضل أيام السنة، فهو أعظم موسم لزرع الحسنات؛ نظرا لخصوبة تربته وارتفاع مردودية الإنتاج فيه. فهو موسم جيد؛ إذن على العقلاء من الأمة أن يحسنوا استثماره من أجل تطهير نفوسهم مما علق بها من أدران وأوساخ بالبحث عن تلبية مطالب الجسد طيلة أيام السنة، والغفلة عن تلبية أشواق الروح. وفي هذا السياق، نقل ابن رجب الحنبلي أبياتا تلخص هذه المعاني، حيث قال:
أتى رمضان مزرعة العباد
لتطهير القلوب من الفساد
فأدّ حقوقه قولا وفعلا
وزادك فاتخذه للمعاد (1)
ومما يدخل في كياسة المسلم وفطنته وعيه بأهمية الزمان (2) ومكانة الشعيرة المؤداة فيه. فالزمان يتجلى في رمضان الأبرك، والشعيرة تتمثل في الصلاة والصيام اللذين ينميّان صفة التقوى في قلب المصلي الصائم. فدرجة الخشوع والمراقبة الإلهية -أو ما يعرف عند المهتمين بعلم النفس التربوي ب”الانضباط الذاتي”- تزداد عند المصلي في رمضان؛ لأن زمن الممارسة يزداد ويتمدد. فاستحضار عظمة الله أمر مطلوب في ممارسة جميع الشعائر الدينية التي منها الصلاة والصيام وغيرهما؛ إذ صحة العبادة في الإسلام مشروطة ومربوطة -كما ورد في حديث عمر بن الخطاب – بالنية التي هي أول مقامات الخشوع؛ لكونها تذكّر المسلم بالمعبود، وتوجه قلبه وعقله نحوه دون سواه.
فالغلاف الزمني المخصص لاستحضار عظمة الله تعالى في رمضان يمتد طيلة اليوم؛ بينما في الصلاة يمتد لحوالي خمس عشرة دقيقة فقط في كل صلاة تقريبا. بيد أنه بالنظر إلى أيام السنة كلها تزداد هذه المدة، فيصبح زمن المسلم كله عابدا خاشعا مستحضرا لجلال المولى وجماله، فهذه المراقبة الدائمة لله سبحانه وتعالى تأتي نتيجة الخشوع في الصلاة الذي يعتبر روحها ومقصدها الأعظم. فالخشوع ينبغي أن يصاحب المسلم في الدهر كله؛ غير أن الحرص على تحصيله يتأكد في رمضان؛ شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار. والصلاة التي يتوفر فيها عنصر التركيز والخشوع تؤدي بالضرورة إلى رفع درجة الإيمان لدى الإنسان، وهذا أثر من الآثار الروحية للصلاة كما سأشير إلى ذلك فيما بعد.
ويكفي المسلم تحفيزا وترغيبا في أداء الصلاة في وقتها حديث رسول الله الذي رواه عبد الله بن مسعود حيث قال: سألتُ النبي أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها». قال: ثم أيّ؟ قال: «ثم بِرُّ الوالِدَين». قال: ثم أيّ؟ قال: «الجهادُ في سَبِيلِ الله». قال: حدثني بهن ولو استزدتُه لزادني (3).
كما يكفي المسلم وعيا بأهمية المحافظة على الصلاة في وقتها وخطورة التهاون فيها ما ورد في القرآن الكريم من الوعيد الشديد في حق من تهاون وتساهل في أداء الصلاة في وقتها دون أي عذر من الأعذار الشرعية التي يسقط معها هذا الركن. ويكفي أيضا في فهم مكانة الصلاة في الإسلام مطالبة المسلمين بها حتى وقت مواجهة العدو المتربص بهم والمتأهب لقتالهم واستئصال شأفتهم. فالمسلم ينبغي أن يفهم من خلال مطالبة الشرع الحنيف له بالصلاة في مثل هذا الوقت العصيب والظرف الشديد أن الصلاة في وقتها ينبغي وضعها في أعلى سلم الأولويات الدينية والدنيوية، وهذا ينبغي أن يقرأ في سياق تأسيس الإسلام على مبدأ التيسير ورفع الحرج الذي يغطي حيزا كبيرا من أحكام الفقه اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
من الآثار الإيمانية للصلاة:
ومن الآثار العامة للصلاة الأثر الإيماني الذي يعني تقوية صلة المسلم الذاتية بالله، بحيث ترتقي علاقته بربه إلى مستوى عالٍ من استحضارالمراقبة والمحبة الدائمة، التي تمكِّنه من أن يعبده فيها كأنه يراه، ويستشعر حضوره القوي المستمر في حياته (4)، كما جاء ذلك في الحديث الذي وصف فيه النبي مرتبة الإحسان في سلّم العبادة بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(5). ولا يكون لهذا البعد الإيماني معنى ومغزى إذا لم يظهر في السلوك الاجتماعي للإنسان، وينعكس إيجابا على الحالة النفسية للفرد والجماعة. ولذلك فقد لا يكون الشخص مبالغا إذا ادعى أن للصلاة أثرا عظيما في الاستقرار النفسي للفرد والجماعة، ويتعين هذا المطلب في عصرنا الحاضر الذي يعاني فيه الناس من اضطرابات نفسية معقدة جدا يستعصى -في كثير من الأحيان- على الخبراء في الطب النفسي علاجها.
ولخفاء المقصد الأسمى من تشريع صيام رمضان على كثير من مسلمي اليوم، يزداد القلق والاضطراب عندهم، مما يدفعهم نحو خلٌق الرفث، والفسوق، والصخب، والمقاتلة المنهي عنها لما فيه من تهديد بّين للأمن الروحي والاجتماعي للمجتمع. فهذه أخلاق وسلوكات جاءت عبادة الصيام والصلاة لمحاربتها وتطهير المجتمع منها؛ من أجل إحلال خلق السّلم والتضامن والتعاون بين أبناء الأمة حتى تصبح ك«الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، تضامنا وتفاعلا مع الأعضاء المصابة بداء الأخلاق السيئة والخصال الرذيلة. ومعلوم من الناحية الطبية أنه لن يستقيم أمر الجسد في أداء وظائفه إلا بمعافاة جميع أعضائه. فمن هذا الحديث النبوي الشريف، نفهم أن هذه الأمة لن يستقيم أمرها إلا بمعافاة جميع أعضائها ومكوناتها.
من الآثار التربوية للصلاة:
ومن المقاصد العليا للصلاة؛ المقصد التربوي الذي يتجلى في تأثير الصلاة في سلوك الإنسان وتهذيبه والرقي به إلى مستوى الإنسان المتحضر ذي السلوك الرفيع في المجتمع. فالصلاة تربي الإنسان وتدربه عمليا على الالتزام بمواعيده، كما تربي فيه قوة الإرادة والصبر على مغالبة النفس على شهواتها وملذاتها، وهذا قدر مشترك بين عبادة الصلاة والصيام؛ حيث إن الشعيرتين تربيان في الإنسان الصبر وقوة الإرادة على اجتناب المحرمات والمنكرات. وأثر هذا المقصد التربوي يلمس في آيات من القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون (العنكبوت: 45). فالصلاة المتقنة تقوي في المسلم الإرادة على مقاومة الانحرافات والمغريات في حياته، بالإضافة إلى امتلاك القدرة على المحافظة على توازنه واستقامته، وهذا الأثر هو المشار إليه بقول الله تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة: 45)، والمؤكد بحديث الرسول الذي يرويه أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ، فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: «إن صلاته ستنهاه»(6)، والمعنى أن صلاته ستحمله مع مرور الزمن إلى الإقلاع عن هذا الفعل الشنيع الذي يؤذي به المجتمع، وهو ما حصل له فعلا.
فمن خلال هذه التوجيهات الواردة في النصوص الشرعية، يتجلى أن للصلاة تأثيرا كبيرا في تقوية الإيمان وتهذيب السلوك لأنها تعمل على المحافظة على توازن المسلم واستمرار استقامته. فالطهارة القلبية والإيجابية في السلوك الاجتماعي للفرد والجماعة هي أقصى ما تستهدفه المناهج التربوية الحديثة في العالم اليوم، وهو ما تتمحور حوله مقاصد الصلاة في الإسلام، وإذا ما لاحظ المسلم عدم تأثر سلوكه وتفكيره إيجابيا، فليعلم أن هناك خللا في أداء هذه الشعيرة.
ذ. بدر الدين الحميدي
——————-
1 – ابن رجب الحنبلي، لطائف المعرف فيما فيما لمواسم العام من الوظائف، تحقيق ياسين محمد السواس، دار ابن كثير دمشق-بيروت، الطبعة الخامسة، 1999، ص: 280.
2 – قال ابن رجب مبينا أهمية الموسم: وقد كان النبي يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان 279.
3 – متفق عليه. أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، رقم الحديث: 504.
4 – محمد الغزالي، المحاور الخمسة في القرآن، دار القلم، دمشق 200، الطبعة 4، 2005. ص: 71.
5 – أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، باب سؤال جبريل للنبي، حديث رقم 4777.
6 – أخرجه الإمام احمد في مسنده، حديث رقم 9740.