أثر الصوم في تحسين الخلق


ليس المراد من الصيام مجرد مراغمة النفس وقهر الفطرة، وتعذيب الجسد، ولا مجرد علاج البدن، أو تخفيف الوزن كما يظن بعض الماديين، وإن كانت هذه النتائج تجيء تبعا. وإنما المراد منه، أن يرتبط العبد بالله تعالى وتتحقق له القدرة على إمساك النفس على طاعته، والانضباط لأمره، حتى فيما هو من أخص خصائص نفسه، ومطالب جسمه، بحيث يتحول كل ذلك إلى عبادة ممتدة.
فهو فترة نقاهة يعود فيها الإنسان إلى نفسه ليحاسبها على ما فرطت، وليستعيد ما فاته من إهمال وتقصير.. إنها فترة قصيرة في زمنها، بعيدة الأثر في أهدافها، تتيح فرصة تواصل الروح مع بارئها بعد تحررها من عبء الطين الجاثم على كاهلها، وتقوي عزيمة الإنسان وتربي فيه الإرادة الحرة، وتشعره بمراقبة الله  له في خلواته واجتماعاته. لأنه سر خفي بين العبد وخالقه جل شأنه، ولذلك أضافه سبحانه إلى نفسه كما في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» (رواه الشيخان والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة)، فيسترد القلب المأسور بالهوى سلطانه على جسده وجوارحه، فيأمرها فتطيعه، وتخالف عوائدها وهواها ويخرج المؤمن الصائم من رمضان عندئذ إنسانا جديدا وخلقا آخر.
إن الصيام وسيلة تحول بين الإنسان والانزلاق في مهاوي الرذيلة، وهو من أهم الدوافع التربوية التي ترسم طرق الصفاء والشفافية والإشراق.. فهذا التدريب السنوي لمدة شهر كامل يمثل تمرينا نفسيا ثوريا، إذ هو يعلم نفسية الفرد المسلم الصائم الصبر والتحكم والانضباط الأفضل، وهي كلها خصال حميدة تساعد على بناء إنسان قوي الشخصية والخلق..
وإذا كان تحصيل التقوى هو الأثر الباطن لإقامة فريضة الصيام، انطلاقا من قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة: 183)؛ فإن حسن الخلق هو الأثر الظاهر لها. وصلاح الباطن لا بد أن يبدو على الظاهر، ولهذا يُرى الصائم – أو ينبغي أن يُرى – صافيا ساكنا أليفا تعلوه مهابة الاستجابة وأنوار الطاعة؛ لأنه يتقي الوقوع في معاصي الله، والضعف في مواجهة الإغراء والتحدي بما يكتسب في صيامه من مناعة وقوة تقيه مزالق الضعف، وتحميه من سهام الشياطين..
فالتقوى إن تحققت تربي قلب الصائم على الخوف، ونفسَه على طاعة الله ، وبهذا يبتعد عن المعاصي والمنكرات التي تغضب الله تعالى وتفسد صيامه، فقد ورد أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له: “أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال شمرت واجتهدت، قال: فذاك التقوى”. (تفسير القرآن العظيم: ابن كثير 1/40).
فهناك علاقة قوية لا تنفصم بين الصوم تشريعا والأخلاق سلوكا والإيمان أساسا وقاعدة، وعلاقة الصوم والأخلاق يلخصها جابر رضي الله عنه بهذه التوجيهات الثمينة حين قال:” إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من المحارم، ولسانك من الكذب، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
ففي شهر الصيام تسلم القلوب من وَحَرها وحسدها وحقدها وغشها وخيانتها، وتسلم من الشحناء والبغضاء، ومن التهاجر والتقاطع، لتعود إلى فطرتها الحقيقية، قال : «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَحَر الصدر». (صحيح الجامع: 3804) وسلامة القلب سبيل النجاة في الدنيا والآخرة. وبالصيام يسلم اللسان من قول الزور، واللغو، واللعن الباطل، والكذب، والغيبة والنميمة وغيرها..قال : «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». (أخرجه البخاري) وقال أيضا: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم». (صحيح الجامع: 5376) وهكذا بقية الجوارح، وبقية الأعمال تدخل دورة تربوية لتصلح وتتحسن نحو الأفضل لمن صدق مع خالقه.
فالصوم تجربة فريدة في ترويض النفس لتتهذب بأجمل الآداب، وفي تقوية العزيمة لترتقي نحو الكمال، وفي تحرير الإرادة لتتخلص من أسر الشهوات. وله أثر بالغ في دعم شخصية المسلم وصقلها وتنقيتها من أدران الضعف والوهن والخمول.. وليس حجرا على حريته، ولا تحديدا من نشاطه الفكري والاجتماعي..
ولما كان للصوم في رمضان كل هذه المزايا والفضائل، فإن الصائم فيه بصدق يرتقي إلى مصاف الملائكة، وتنبعث منه إشراقات نورانية بما تحقق لروحه من صفاء ولقلبه من نقاء، ولجوارحه من استقامة.. فيكتسب مناعة ضد استرخاء العزم واستبداد الوهم، ويستطيع أن يتخلص من العادات التي تخرم المروءة وتوهن الهمة، ويضرب بذلك مثلا في حسن الخلق، فيتأثر به المحيط والخليط.
ومعلوم أن لحسن الخلق حقيقة لا تخطئها العين في المتحلين به والموفقين إليه، يقول القاضي عياض رحمه الله: “حسن الخلق هو: مخالطة الناس بالجميل والبِشر، والتودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغلط والغضب والمؤاخذة” (جامع العلوم والحكم 1/457)، وهذه الأعمال كما هو جلي هي ما ألمعت إليها نصوص الصيام، وهي مطلوبة في الشرع، مقدورة في الطبع، نافعة لصاحبها قبل أن تكون نافعة للناس، ومن هذا المنطلق أمر النبي أبا ذر الغفاري بقوله: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن». (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح)
هذه المخالقة للناس بالخلق الحسن هي صورة المؤمن في كل حال، وهي أقوى ما تكون في شهر رمضان. وهي التي تعكس الوجه الإيجابي للمخالطة والصبر على أذاها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (رواه الترمذي، وابن ماجة، والإمام أحمد).
بعض الناس – هداهم الله – تتحول أخلاقهم في رمضان عند المخالطة بحجة الصيام إلى النقيض، فينقلب إلى الفظاظة والغلظة، وسرعة الغضب، والسخط، وقول الهجر، والبعد عن الأدب.. وهؤلاء ابتليت بهم مجتمعاتنا، وقدموا نماذج سيئة عن صورة المجتمع الإسلامي في هذا الشهر الفضيل. مع العلم أن رمضان شهر الصبر كما تقدم، فيه صبر على طاعة الله تعالى من صيام وقيام وتلاوة وذكر ودعاء، وفيه صبر عن معاصي القلب والجوارح بترك ما تشتهيه النفس لأجل الله تعالى، وفيه أيضا صبر على الأقدار المؤلمة، بما يحصل للصائم طبيعة من تألم من أثر الجوع والعطش.. فالصبر بضيائه، يكسب الصوم نورا على نور، فتتضاعف فيه الحسنات، وتزداد الأجور، قال : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب . (الزمر: 10).
إن الواجب أن تتطهر مجتمعاتنا من المظاهر السلبية التي يغتال فيها الوجه المشرق للحياة الإيمانية، التي يرفع عمرانها شهر الصيام، ويزخرفها خلق الصائم، الذي ينأى بسمته وحاله عن سخف العيش ودرك الشهوات، إلى نبل الذكر وعلياء القربات..
والله تعالى الموفق للخير والهادي إلى سواء السبيل.
د. عبد الحفيظ الهاشمي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>