آثار اتباع الهدى في القرآن الكريم


قبل الخوض في هذه الآثار نشير إلى أن ضميمة “اتباع الهدى” وردت أربع مرات في كتاب الله  في:
1 – قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 38-39).
2 – وقوله جل من قائل: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (طه: 47 – 48).
3 – وقوله جل وعلا: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (طه: 123-124).
4 – وقوله : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون (القصص: 56 – 57).
الضميمة في الآيات الأربع ضميمة إضافية، وهي في اثنتين منها -البقرة وطه: 123 – جملة شرطية مؤلفة من الشرط وجواب الشرط أداته “من” وجوابه جملة اسمية مقترنة بالفاء.
وهي في الآيتين واقعة جواب شرط متقدم وهو قوله تعالى فيهما: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، ومستأنفة شرطا آخر جوابه داخل في جواب الشرط على الأولى .
أما آية القصص (57) فأداة الشرط فيها “إنْ”، وجوابها فعل لم يسم فاعله. وأما أزمنة الأفعال الداخلة عليها أدوات الشرط فكلها ماضية، وهي في معنى المضارع لاقترانها بالشرط.
وهذه الشروط التي في الآيات أجوبتها جميعا وعود من الله جل جلاله لمتبعي الهدى في آية طه والبقرة، وادعاء أو توهم من المشركين في آية القصص لا غير، وهذه الأجوبة الشرطية هي التي تكتنز لنا آثار اتباع الهدى عنوان هذا المقال، فانظر قوله تعالى:
- فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
- فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى .
- إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا .
والذي يجمع بين سياقات هذه الآيات، ومعها قوله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (طه: 47 – 48) -الذي يجمع بينها- وينتظم مضامينها أنها في عمومها ذات بُعْدٍ أمني صرف -إن جاز هذا التعبير-؛ إلا أن حقيقة الأمن في علاقته باتباع الهدى متأرجحة بين منطقين اثنين:
منطق معقول هو منطق الوحي الذي يؤكد على أن الأمن في اتباع الهدى، ومنطق مختل متوهم يرى الأمن في خلاف ذلك(1).
فبمنطق الله جل جلاله، وبمنطق رسله عليهم الصلاة والسلام، أنه متى أتى بيان ودلالات من الله على هدىً من عنده، وجب اتباع هذا الهدى، وجزاء ذلك:
• ضمان الأمن من أهوال القيامة بزوال الخوف مما هو آت، وعدم الحزن على ما فات، وهو ما قرره قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: 38-39)، قال الطبري: “وقوله: فَلاَ خَوْف عَلَيْهِمْ ؛ يعني: فهم آمنون من أهوال القيامة من عقاب الله غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمره وهداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذٍ على ما خالفوا بعد وفاتهم في الدنيا، كما حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يقول: لا خوف عليكم أمامكم، وليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمّنهم منه وسلاّهم عن الدنيا، فقال: وَلا هُمْ يَحْزَنُون “(2).
لقد أبرزت الآية الخوف كقضية كبرى من القضايا النفسية والوجدانية؛ وذلك أن النفوس البشرية جملة مؤمنها وكافرها تنشد الأمن والأمان في هذه الدنيا؛ إذ هما أساس الهناء والطمأنينة، ومرتكز الراحة والسكينة، ودافع القلق والتوترات، فلا تهنأ حياة ولا تطيب عيشة مع شيء من الشعور بالخوف، ومهما توافر للمرء من أسباب العيش الرغيد والمقام السعيد؛ فإن الخوف من شيء واقع أو متوقع يسلبه مذاقه ويحرمه من أي متعة له.. فالخوف منغص العيش ومكدر الصفو، وجالب الحزن والأسى والشفقة على النفس، وربما أدى إلى الإحساس بالهوان والضعف والذلة…
هذا عام بالنسبة لكل البشر، ويضاف إليه بالنسبة للمؤمن خوف آخر مترتب على إيمانه وعقيدته المؤسسة على جملة أركان منها الإيمان باليوم الآخر، إذ الحياة عنده حياتان: الحياة الدنيا والحياة الأخرى، الحياة الفانية والحياة الباقية، الحياة العاجلة والحياة الآجلة… والحياة الحقيقية التي تستحق أن تسمى حياة هي الحياة الآخرة، كما أكد ذلك ربنا سبحانه وتعالى بقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت: 64)، لذلك كان الخوف عند المؤمن من تلك الحياة أن تبور أشد وأقوى، والفزع من هول المصير فيها أكثر وأكبر، فجاء التطمين من الله تعالى للمؤمنين المتبعين هداه والمطيعين هداته بأن لا خوف عليهم يومذاك. أما ما يعرض لهم في الدنيا فلا يؤبه له لاقتران الشقاء بها كما أخبر الله تعالى الإنسان به في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه (الِانْشقاق: 6)، ومراد الله الابتلاء فيها كما قال جل شأنه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (الملك: 2)، ولقصر المكث فيها، وللأجر والمثوبة عن كل ما يلاقيه من شدائد، وما يكابده من نصب أو وصب، كما جاء في الحديث؛ عن صهيب قال: قال رسول الله : «عجبا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له»(3)، على عكس الكافرين الجاحدين الذين تحكمهم نظرة ضيقة وناقصة للحياة؛ التي لا تتجاوز عندهم ذلك الحيز الزمني المعيش فوق حيز مكاني من الأرض، وبعد ذلك لا حياة كما حكى الله جل جلاله عقيدتهم الفاسدة بقوله: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ (الجاثية: 24). وبقوله جل من قائل سبحانه: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين (الأَنعام: 29)، لذلك كان تشبثهم بهذه الحياة شديدا، وحرصهم عليها قويا، كما أخبر بذلك ربنا سبحانه وتعالى عنهم بقوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ (البقرة: 96)، فالخوف عندهم ليس من المصير، وإنما من انتهاء هذه الحياة التي هي –حَسَبَهُم– كل شيء. لكن ما كانوا لا يعتقدونه أو بالأحرى يدفعون اعتقاده ويجحدوه ويعدوه أساطير الأولين، يصير حقيقة ويروه عين اليقين لحظة نفاد أيامهم المعدودة في هذه الدنيا وحضور أجلهم الذي لا يؤخر، فيتملكهم خوف رهيب، وهول شديد… حتى إن أحدهم ليتمنى أن تتاح له فرصة أخرى ويعود إلى الدنيا ليستعد بما يلزم لهذا المقام، كما حكى الله تعالى ذلك في تصوير بديع بقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ… (المؤمنون: 99 – 100)، وبحلولهم في القبر ومعاينة أهواله وكُربه المنبئة بالمآل السيئ والعاقبة البئيسة، وبحضور يوم الفصل ونصب الموازين يتضاعف خوفهم وفزعهم أضعافا مضاعفة. وهنا وفي هذا الموقف الخطير تظهر آثار الاختيارات السابقة وتجنى ثمرات القرارات الصائبة: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (البقرة: 38).
يتبع

د. خالد العمراني

—————

1 – هو منطق المشركين الذين قالوا: “إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا” القصص 57.

2 – جامع البيان لا بن جرير الطبري.

3 – اخرجه مسلم في صحيحه؛  كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>