1 – سبيل وسبل:
لن يُفَكَّ وثاق أسر الشيطان إلا بالسير في سبيل واحد مستقيم احترازا من سبل تتفرق بك، فالبون بين واحدية الحق، وتعدد صور الضلال شاسع، وحليفك وناصرك وجَّهَكَ إلى سبيل الخلاص، فقال سبحانه: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتقرق بكم عن سبيله ، وقد شرح لنا الرسول هذه الآية؛ فعن عبد الله بن مسعود قال: “خط لنا رسول الله خطا، ثم قال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله، وقال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»، وقرأ: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه “. (الآية).
في هذا تصوير بليغ منه لجزاء الرضى بذل الاحتناك الذي مؤداه الإعراض عن سبيل الله إلى سبل الشيطان، وما في جسارة الإعراض من هجر الأبعاد ومن ذل الهجر والخذلان، وإلا فالخلاص الاستعاضة عن ذلك بالسبيل الواحد صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ بسالكه الأسباب.
فسبل الشيطان حُفَّت جنباتها بصوارف الغواية والإغراء ونوازع الأهواء، وألبست لبوس الحق تمويها وتضليلا؛ فانطلت حيل الزيف على خلق كثير، ووسمت الأشياء بغير مسمياتها، فسمي المنكر معروفاً، وسمي المعروف منكراً، واختلت موازيين الحق في عالم موار سخر فيه الشيطان من البشرية في سنيها الخداعات، فوقف على قارعة سبله ملوحا بخمائل غوايته يلبسها كل من فتنهم بألوانها ووقع في قلبهم حب مواجيدها دعة وكسلا؛ ليصدق عليهم قسمه. ولم يسلم من شرك كيده المؤمنون فقد قعد لهم على ناصية الصراط المستقيم، يأتيهم من كل جانب يدحرهم عنه دحورا، قال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (الأعراف: 16-17).
لهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله يقول: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وآمن روعتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي».
فعلى سالك طريق الحق أن يتحصن بحصن الله المنيع، وأن يعلم أن إبليس وجنده لا سلطان لهم على الخلق، وأن كيدهم ضعيف، وإنما أجري الأذى على أيديهم –كما قال ابن عطاء الله السكندري- “كيلا تكون ساكنا إليهم فتفر إليه عندما أمرك بالفرار” قال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين .
1 – نسف البدايات:
يقعد الشيطان للمؤمنين في طريق البدايات، لعلمه أن البدايات القوية فيها بركة الاستمرار والنجاح، فيعزم على نسف جدِّ المؤمن واجتهاده إذا لم يتحصن بأسلحة الدعاء والافتقار، فيبَيّت له الكيد أعمالا وعزائم. فعنْ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ». فيعقد على القافية وهي مؤخرة الرأس، ويضرب بيده على العقدة تأكيدا وإحكاما لها قائلا: “عليك ليل طويل فارقد”. فتبيت الأخشاب الصريعة بعدما هجرتها الأرواح خامدة الأنفاس غارقة في نتن الصلصال المسنون، يشدها رقود بليد يستكين إلى خمول التراب؛ تغط في سبات مثقلة بأدران الخطايا سقاؤها: «ذلك رجل بال الشيطان في أذنه». فتكون البداية هزيمة نكراء، وخنق للأنفاس عن شهود طلائع البكور، ودنس يصيب بالصمم آذانا لا ينفذ إليها الحق ولا يصل إلى قلب زج به في غياهب السبات.
فمن لم يحرص على شرف ونور البدايات أصابه احتناك إبليس في مقتل، ولم تكن له معارج على براق الشوق، وضلت قوافل عزمه الطريق.
وباب الوصول الخفي إلى نور البداية والهبة القوية بتجلياتها وأذواقها بعقد أحسن العزم قبل النوم، وختم اليوم بذكر الله، ثم الْحَثّ عَلَى الذكر عند الاستيقاظ، والتحريض على الوضوء حينئذ وَعلى الصلاة.
1 – وقاء ووجاء:
يلزم هذه المعركة المستمرة ببقاء روح ابن آدم في جسده وقاء ووجاء من شرها أوله التسلح بالحيطة والحذر من مهانة الخسران المبين، فالعدو ماكر خبيث حريص على إضلال بني آدم، هدفه نكس القلب والقضاء على جنوده ثم الطبع عليه بختم الإبعاد، وقد ذكر ابن الجوزي ذلك الصراع قائلا: “واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب وفيه ثلم، وساكنه العقل، والملائكة تتردد على ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع، والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم، فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم، وألا يفتر عن الحراسة لحظة، فإن العدو لا يفتر”.
ومع الحيطة يلزم التسلح بكتاب الله وسنة رسوله علماً وعملاً، فهما أعظم سبيل للحماية من الشيطان وإغاظته أعظم إغاظة، يقول ابن القيم: “الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً، وأحاطوا به، وكل منهم ينال بما يقدر عليه من الشر والأذى، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله ”.
والاشتغال بالذكر من أعظم ما ينجي العبد من الشيطان، وفي الحديث: «أن الله أمر نبي الله يحيى أن يأمر بني إسرائيل بخمس خصال، ومنها: “وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى إذا أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله”.
كذلك الجد في القربات والطاعات، فقد جاء في الحديث القدسي: «وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما فرضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه»، فيكون معه الله تعالى في كل خطواته وهمساته وسكناته، ومن كان الله معه لم يهنه إبليس بحنكه.
دة. رجاء عبيد