لآلئ وأصداف – الوراثتان (3)


نبقى مع وراثة الأرض الدنيوية لنجد أن القرآن الكريم يستعمل للدلالة عليها ألفاظاً أخرى، ومن ذلك لفظ (السكن) الذي يأتي فعلا واسما، فمن ذلك قوله تعالى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (الإسراء: 104). قال الزمخشري رحمه الله: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يستفزكم منها.
وقال القرطبي: وقلنا من بعده لبني إسرائيل أي من بعد إغراقه اسكنوا الأرض أي أرض الشام ومصر.
وذهب البقاعي إلى أن المراد من قوله سبحانه: اسكنواالأرض ، أي مطلق الأرض، إشارة إلى أن فرعون كان يريد محوهم عن الأرض.
وورد لفظ السكن أيضا في قوله سبحانه في سورة: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (إبراهيم: 14). قال سيد قطب رحمه الله في هذه الآية: ولنسكننكم الأرض من بعدهم ، لا محاباة ولا جزافا، إنما هي السنة الجارية العادلة: ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ، ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي، فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر. وخاف وعيد، فحسب حسابه، واتقى أسبابه، فلم يفسد في الأرض، ولم يظلم الناس. فهو من ثم يستحق الاستخلاف، ويناله باستحقاق.
وفي تفسير قول الله : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (إبراهيم: 13)، قال الإمام ابن عاشور رحمه الله تعالى: فلا جرم أن يكون المراد بالذين كفروا هنا كفار مكة، ويؤيده قوله بعد ذلك: ولنسكننكم الأرض من بعدهم فإنه لا يُعرفُ أن رسولا من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذبيه بعد هلاكهم وامتلكها، إلا النبي محمدا ، قال في حجة الوداع: «منزلنا إن شاء الله غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».
وعلى تقدير أن يكون المراد بــــــ الذين كفروا في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها. وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهر الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله.
وقد فصل الشيخ جواد مغنية تفصيلا شافيا عندما وقف عند قوله تعالى: وقال الذين كفروا لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فقال: دعا الأنبياء دعوة الحق والعدل بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكرهوا أحدا على دينهم وعقيدتهم لأن دعوتهم تقوم على أساس عدم الإكراه في الدين، وإن كانت في طبيعتها ثورة على المعتدين والمستغلين، ومن هنا أعلن هؤلاء الثورة المضادة على الأنبياء، وخيروهم بين النفي والارتداد إلى الكفر. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي -أي وجودي وسطوتي- وخاف وعيد . بعد أن بلغ الأمر بالمشركين إلى تهديد الأنبياء بالنفي إذا لم يشركوا مثلهم جاءت إرادته تعالى لتضرب الطواغيت الضربة القاضية، وتورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم: وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم (الأحزاب: 27).
ويتابع الشيخ جواد قائلا:
وتجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى أمرين :
الأول: إنه  بعد أن ذكر تطاول أهل البغي والفساد، وتماديهم في الضلال قال: إن مصيرهم الهلاك والدمار نتيجة لبغيهم وضلالهم، وأن عاقبة المتقين النصر والتمكين في الأرض، وهذا هو منهج القرآن الكريم في ذكر المسببات مع أسبابها، والنتائج مع مقدماتها، ولهذه الطريقة فوائدها، منها الترغيب في الحق وعمل الخير، والترهيب من الشر والباطل، ومنها أن يتفاءل الإنسان بحسن العاقبة وانتصار الحق، حتى ولو أخذ الباطل مأخذه وأن لا يستسلم لأهله وإن تطاولوا وصالوا وجالوا لأن الكرة ستكون عليهم في النهاية وإن طال الأمد. وقد جرى على هذه الطريقة الكثير من الخطباء وأصحاب الأقلام، فإنهم يذكرون إساءة من أساء، ثم يعقبون عليها واثقين بأن الشر لا يجزى به إلا فاعله .
الأمر الثاني: إن الله سبحانه يتدخل بإرادته لنصرة المحقين على شريطة أن لا يرتدوا عن الحق، ولا يشكّوا فيه، ولا يساوموا عليه، ولا يرضوا بأنصاف الحلول، ويلتمسوا القليل من حقهم بالكثير من باطل أعداء الله وأعدائهم، وقد دلت التجارب على أن أنصاف الحلول لا يستفيد منها إلا من اعتدى وأفسد في الأرض، وإنها أبدا ودائما تأتي في صالح المبطلين، لأن أي تنازل عن الحق فهو ربح للغاصب المبطل، وخسران للحق وأهله.

د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>