شهر يغفل عنه الناس


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد ، وبعد،
لقد خص الله تعالى بعض الأزمنة والأمكنة بمزية تفضلها عن غيرها، وبخصيصة لا توجد فيما دونها، وهذا فضل الله يضعه حيث يريد، ورحمته يختص بها من يشاء وما يشاء وكيفما شاء ومتى شاء، فإذا فضل سبحانه زمانا على زمان، أو مكانا على مكان، فهو بمحض اختياره، ونفوذ مشيئته في جميع خلقه، وانفراده باختيار ما يختار، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره.
وإن مما اختص الله تعالى به بعض الأزمنة شهر شعبان، فقد أودع فيه من الفضائل ما يدعو المسلم الكيس الفطن إلى الاعتناء به ومعرفة فضله، وما يشرع فيه من الأعمال الصالحة الثابتة عن النبي ، فيسارع إلى فعلها ويحرص على أدائها، وهذا هو موضوع حديثنا، ولنشرع فيه بإذن الجواد الكريم.
فضل شهر شعبان:
روى الإمام النسائي فى سننه عن أسامة بن زيد ، قال: “قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»”(1).
يبين هذا الحديث ما اختص الله تعالى به شهر شعبان من فضل عظيم كونه شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العباد، وهذا لعمري أمر جليل لا يقدره قدره سوى من اهتم بعمله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، من أعمال القلوب والجوارح، وهذا ما تنبه له حِب رسول الله وابن حِبه .
وذكر النبي لهذا الأمر تنبيه وتوجيه منه للمؤمنين إلى وقت رفع الأعمال إلى الله  مما يحفزهم أولا على إصلاح أعمالهم بتحري الإخلاص والصواب والمتابعة فيها لمراد الشارع منهم في كل الأحوال والأوقات، وثانيا الاعتناء بوقت رفع هذه الأعمال وتعميره بما يشفع لها من الأعمال الصالحة ويجبر ما فيها من نقص أو خلل أو سهو، ويكون أدعى وأحرى لقبولها عند الله تعالى، وأجزل مثوبة، وأرفع درجة، وأزكى بركة، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ولعِظَم هذا الفضل وجلالته بين النبي حال الناس في هذا الشهر الفضيل، حيث يغفُلون عن فضله وعن واجب الوقت فيه، وسبب الغفلة عنه وقوعه بين شهرين عظيمين: الأول: شهر رجب وهو من الأشهر الحرم، والثاني: شهر رمضان الأبرك، والناس “يكثرون العبادة في هذين الشهرين، ويتساهلون بينهما في شعبان”(2) مع كونه شهرا ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وهذه مناسبة تستحق من كل مسلم الوقوف عندها، وإعطائها حقها، وفرصة لتجديد العهد مع الله بصالح الأعمال وجميل الأقوال، وطرد للغفلة عن القلب، وتنكيل بعدو الله وعدو المؤمنين عليه لعنة الله، فوسوسته لا تجدي إلا مع الغفلة والنسيان.
مع العلم أن رفع الأعمال وعرضها على الله تعالى ليس خاصا بشهر شعبان، فهناك عرض للأعمال كل يوم، فعن أبي موسى الأشعري قال: “قام فينا رسول الله بخمس كلمات، فقال: «إن الله  لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»”(3).
وهناك عرض للأعمال كل يوم إثنين وخميس، فعند النسائي أيضا عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله! إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: “«أي يومين؟» قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: «ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم»” (4).
وعلى هذا فإن “أعمال العباد تعرض على الله كل يوم، ثم تعرض عليه أعمال الجمعة في كل اثنين وخميس، ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان، فتعرض عليه عرضا بعد عرض، ولكل عرض حكمة يطلع عليها من يشاء من خلقه، أو يستأثر بها عنده، مع أن الله لا يخفى عليه من أعمالهم خافية”(5).
أعمال شهر شعبان:
إن الغاية من إظهار فضل شهر شعبان ليس لمجرد المعرفة وزيادة العلم بذلك، وإنما المقصود التفطن إلى ما يجب على المسلم فعله والقيام به، كما نبه على ذلك سيد الخلق حين أظهر لأسامة حكمة وسبب إكثاره من الصوم في هذا الشهر دون غيره من شهور السنة باستثناء شهر رمضان الكريم، وهذا إرشاد وتشريع منه إلى فضائل الأعمال التي يحسن بالمؤمن القيام بها أثناء رفع عمله وعرضه على رب العزة والجلال، ومن جملتها:
أ – الصيام: وقد كان النبي يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره، ففي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان، فكان يصوم شعبان كله إلا قليلا”(6).
فظهر بذلك أن أفضل الأعمال الصالحة في هذا الشهر هو الصيام، ولعل الحكمة من ذلك قربه من شهر رمضان، “فتكون منزلته من الصيام بمزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد منه”(7).
ولا يخفى على لبيب فضل الصيام عموما، وهو من أنسب العبادات والطاعات التي يشفع بها المسلم أعماله كلها عند عرضها على ربه سبحانه وتعالى، والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة لا داعي لإيرادها، والله أعلم.
ب – القرآن الكريم: وقد كان السلف رضوان الله عليهم يكثرون العناية بالقرآن الكريم في هذا الشهر المبارك، وقد روي عن أنس (8) قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها، حتى أنهم كانوا يسمونه شهر القراء، كما قال سلمة بن سهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن(9).
ج – الإكثار من الأعمال الصالحة: من جنس الأعمال المشروعة في شهر رمضان، “فلما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن، ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمان”(10)، ومن أجل الأعمال النافعة لحصول التأهب كثرة الصدقات وإطعام المساكين، ودوام ذكر الله تعالى بالأذكار المسنونة عن سيد الخلق ، والحرص على قيام الليل بما يطيق العبد حتى يكون ذلك عونا له على الاستعداد وترويض النفس على الطاعات والعبادات، والله الموفق سبحانه.
وكما قالوا: إن شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، فلينظر كل منا ماذا زرع وبماذا سيسقي، حتى يطيب حصاده وثمره، وفقنا الله لكل خير، وأعاننا على كل بر، هو ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
يحيى عارف
————
1 – أخرجه الإمام النسائي في السنن الصغرى، كتاب الصيام، باب صوم النبي بأبي هو وأمي وذكر اختلاف الناقلين في ذلك، حديث رقم:‏2357 ص: 256 (طبعة بيت الأفكار الدولية)، ‏ والحديث حسنه الشيخ الألباني فى صحيح سنن النسائي حديث رقم: 2357، وكذلك الشيخ محمد علي آدم في ذخيرة العقبى شرح المجتبى (21/268).
2 – ذخيرة العقبى شرح المجتبى للشيخ محمد علي آدم (21/268).
3 – أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: قوله : عن الله لا ينام، حديث رقم: 179 (صحيح مسلم، تحقيق نظر الفريابي، ط1، 1427هـ، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض).
4 – أخرجه الإمام النسائي في السنن الصغرى، كتاب الصيام، باب صوم النبي بأبي هو وأمي وذكر اختلاف الناقلين في ذلك، حديث رقم: ‏2358 ص: 256 (طبعة بيت الأفكار الدولية)، ‏والحديث حسنه الشيخ الألباني فى صحيح سنن النسائي حديث رقم: 2357، وكذلك الشيخ محمد علي آدم في ذخيرة العقبى شرح المجتبى (21/268).
5 – ذخيرة العقبى شرح المجتبى للشيخ محمد علي آدم (21/268).
6 – أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب: صوم شعبان، حديث رقم: 1969 (صحيح البخاري، ط1، 1423هـ، دار ابن كثير، بيروت).
7 – لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 249 (تحقيق: ياسين السواس، ط6، 1421هـ، دار ابن كثير، بيروت).
8 – لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 258، وقال إسناده ضعيف.
9 – كل هذه الآثار عن التابعين أوردها ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف ص 258-259.
10 – لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي ص 258.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>