ذكرى الإسراء والمعراج وحتمية ارتباط الأرض بالسماء


حَدَثُ الإسراء والمعراج مِنْحة ربانية كبيرة لنبيه ، تجلت أولا في الرحلة الأرضية، وهي وإن كانت أرضية، فإنها ليست كباقي الرحلات؛ زَمناً ومركوبا ومسافةً. ثم بعد ذلك في الرحلة السماوية حين عُرِجَ به إلى السماوات العلا، ولذلك فإن الحدثَ حدثٌ غيبي بامتياز، والإيمان بحدوثه لا يتم ولا يكون إلا بالإيمان بالغيب والتسليم بقدرة الله سبحانه وتعالى الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وذكرى هذا الحدث التي مرت منذ أيام، تستوجب على المسلم استحضارها من جميع جوانبها، وخاصة من حيث هذين البعدين: الأرضي والسماوي.
فمن حيث البعد الأرضي يدل الحدث، من بين ما يدل، على ما يلي:
< أن أمر هذه الأمة يبدأ من المسجد ويؤول إليه، ولذلك نصَّت آية الإسراء على أن الإسراء كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا التنصيص على المسجد بدل ذِكْر المكان بصورة عامة، يدل بشكل واضح على المكانة المتميزة للمسجدين المذكورين -بالإضافة إلى المسجد النبوي-، فبهذه المساجد الثلاثة أولا، التي لا تشد الرحال إلا إليها، ثم بعموم المساجد الأخرى ثانيا، تكون هذه الأُمَّةُ أُمّةً حقّا. < أن المَدَدَ الرباني قد يأتي من حيث لا ينتظره العبد ولا يتصوره ولا يترقبه؛ فبعد أن بَدَا -بالمنطق المادي- وكأن الآفاق قد سُدت أمام مسيرة الرسالة النبوية، نتيجة لما حدث للرسول في الطائف وغير الطائف، جاءت المِنحة الربانية لتبين أن أمر الرسالة غير محصور بين مكة والطائف، ولكنه أمر عالمي يرتاد كل الآفاق، شرقها وغربها، أرضها وسمائها. ولذلك فإن أمر الأُمّة حاليا، وما تعانيه من تشتت وتفرق واقتتال، وما تعيش فيه من ذُلٍّ وانكسار، وإحن ومِحن، لا يمكن أن تنجو منه إلا بمِنَحٍ ومِنَنٍ ربانية عالية. لكن بشرط التوجه إليه ، قولا وفعلا، كما توجه إليه المصطفى ، خاصة بعد حَدَث الطائف في دعائه المشهور، ثم بعد الأخذ بالأسباب كاملة كما أخذ بها رسول الله وهو يدعو قومه. وأما البعد السماوي فيبدو في عدة جوانب أخرى، منها: < أن مصدر رسالات الأنبياء عليهم السلام تنطلق من مصدر واحد هو مصدر الوحي، ومن ثم فإن رسالة الإسلام واحدة، وإن رسالته خاتمة الرسالات، وهذا ما يستفاد من ترحيب الأنبياء بصاحب الذكرى، كما أن إمامته بالأنبياء في المسجد الأقصى تدل على ذلك بوضوح. < أن أمر الأرض وما فيها وما عليها لا يمكن أن يسير حق السير، ولا يمكن أن يستقيم حق الاستقامة، إلا باستنارة مَنْ في الأرض بما جاء من السماء. وإن فرض الصلاة في المعراج لأكبر دليل على ذلك، فهي الصلة بين العبد وربه، وهي أول ما يحاسب العبد عليه، وبالصلاة يُعرَف المسلمون بأنهم أهل القِبلة، ولا يمكن أن يكونوا كذلك إلا إذا ارتبطت أفئدتهم بالسماء ارتباط اتجاههم الحسي نحو القبلة، استجابةً وإنابةً، طاعةً واهتداءً.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>