الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالعبودية والتوحيد وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الأمجد المجيد، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الأخيار، وكل من تبعهم بإحسان إلى انقضاء الآجال والأعمار…
أما بعد فيا أيها الأحبة في الله:
إن مما لا ريب فيه ولاشك أن الناس يكادون يجمعون على أن المجتمع في حاجة ماسة لا إلى كثرة الرجال فحسب؛ وإنما إلى رجال الثبات على المبادئ الشريفة، رجال أقوياء أمناء لا يتزعزع إيمانهم ولا تنقص طاعتهم بل تزيد وتترعرع، ولا يشكون في عبادة الرحمن أو يشككون الناس في عبادة الواحد الديان، رجال الأخلاق الفاضلة، والسنن العادلة، فما الثناء على الكم والعدد إلا باصطحاب الكيف والنوع، أما العدد دون الكيف والنوع فلا قيمة له ولا عبرة به مهما بلغ ما بلغ…
أيها الإخوة:
إن المؤمنين الثابتين على مواقفهم يُعْرَفون على الحقيقة عند الأزمات وكثرة الشبهات والشهوات، فهناك مَن يثبتون على معتقداتهم وقيمهم وأخلاقهم، فلا يتنازلون عن شيء منها، لا يوالي أحدهم أو يعادي من أجل الدينار والدرهم، أو يطيع أي مخلوق في معصية الخالق، ولا يؤذي المسلمين الغافلين؛ تزلفاً لسيد، أو تشوفاً لمنصب، بل يضبط لسانه عند الغضب، فلا يسبق لسانُه عقلَه، بل لابد من التأمل قبل القول والفعل، ولا بد من التثبت قبل الحركة والعمل. وليست الأحلام “العقول” التي ميز الله بها العباد تظهر على حقيقتها في حال الرضا ورغد العيش؛ وإنما الأحلام الحقة تظهر في حال الشدة و الغضب، قال أحد الحكماء: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة.
وقد مدح الله الرجال الثابتين على الإيمان والصدق المتشبثين بالعدل والحق، مهما تغيرت الظروف وتباينت الصفوف، الرجال الذين لا تهزهم رياح الفتن، ولا تضعفهم أباطيل المرجفين، ولم يبدلوا ولم يغيروا، فقال جل جلاله: من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (الأحزاب: 23).
أيها الكرام لقد ظهرت في هذا العصر طوائف من الناس ضعف إيمانهم ويقينهم بالله ، هم مسلمون لكنهم لم يحققوا معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهؤلاء يُشفق ويُخاف عليهم أن يمردوا على ذلك حتى يُلاقوا ربهم، لقد صاروا يعبدون الله على هاوية عميقة ومهلكة يعبدونه على شك أو انحراف، فهم على وشك السقوط والضلال عند أدنى هزة وابتلاء، لقد أخذوا الدين قضية تجارة ومقايضة ونفع مادي لا أقل ولا أكثر قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين (الحج: 11).
قال عبد الله بن عباس : “كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قالَ هذا دين صالح؛ وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قالَ هذا دين سوء”، وكما ظهر هؤلاء في أول الزمان ظهرت طوائف أخرى في عصرنا الراهن وكما هو معلوم أن التاريخ يعيد نفسه مع تبدل الأشخاص والمعطيات…
أيها الأحباب:
نلاحظ أن الآية الكريمة تصور لنا هذا الإنسان بأنه على حرف غير متمكن في العقيدة ولا مثبت في العبادة فهو في حركة جسدية وروحية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى، ومن ثم ينقلب على وجهه بمجرد وقوع الفتنة، ووقفته المتأرجحة وشكه وتردده تمهيد لهذا الانقلاب، وبعد الانقلاب الخسارة أجارنا الله وإياكم منها، إن الإنسان المتقلب الذي لا يستقر على الأصل الأصيل الذي هو الإيمان بالله والثقة به سبحانه وتعالى سرعان ما يسقط ويهلك ويخسر الخسارة التي لا يجبر ضررها، فما دام الخير يأتي هذا الإنسان أو حصل على منصب أو عمل أو وظيفة أو ربح في تجارة أو ما شاكل هذا إلا وتجده مطمئن القلب بإيمانه، بل ربما اعتقد أنه حصل على ذلك لصلاحه وفضله ورضا الله عنه، وهذا أمر خطير وخطير جدا لأن الرزق لا علاقة له بالصلاح والفضل أبدا، وإنما يرزق الله تعالى المؤمن والكافر والبر والفاجر، أما إذا سلب منه شيء من ذلك ظهر مرض قلبه فانقلب على وجهه وانتكس راجعا في إيمانه وبدأ يحتج ويتضجر من قضاء وقدر الحكم العدل، ومن هنا يجد الشيطان الثغرة فيقذف في قلبه الشبهة تلو الشبهة، حتى تنهار إرادته وإيمانه، فيخسر بذلك الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، ويدخل تحت هذا النوع أناس رفعوا راية الإصلاح فتحدثوا وخطبوا ونشطوا في وقت الرخاء حتى إذا مسهم البلاء وتغير عليهم الناس نكصوا على أعقابهم وتخلوا عن دعوتهم وجعلوا فتنة الناس كعذاب الله قال تعالى: ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين (العنكبوت: 9)، وربما أخلد بعضهم إلى الأرض واستكان للشهوات وبحث لنفسه عن العلل والمعاذير التي لا تغني عن الله فتيلا.
كما يدخل في هذا النوع كل الذين آمنوا بالله على أساس المصلحة والمنفعة العاجلة واتخذوا الدين تجارة مادية محسوسة حتى إذا أصابهم الله بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات… انقلبوا وارتدوا على أعقابهم.
أيها الأحباب إن المسلم يلاحظ ما تقوم به دوائر الفن ومؤسساته على طول العالم وعرضه من نشر للأفلام الخليعة والأفكار الفاسدة وهدم قيم الإسلام ومبادئه، وتجريد الأمة من سر قوتها وأساس نهضتها لتكون لقمة سائغة لأعداء الدين، الذين يلهثون وراء هذه الجريمة النكراء ويدعون من دون الله تعالى إما إشباعا لشهوات سواد الناس وكسبا لرضاهم، أو تنفيذا لمخططات الملحدين في إشغال الأمة عنهم وتهميش دورها في الحياة، قال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بد ما تبين لهم الحق (البقرة: 108) كل هذا رغبة أو رهبة ممن يدعون من دون الله، وينسى هؤلاء المضطربون الواقفون على حافة الهاوية أن الكل ضعيف تحت قبضة الله وسلطته…
ويدخل تحت عموم الآية أصناف أخرى كعبد الدرهم وعبد الدينار الذين يلهثون وراء الدنيا وحطامها وينسون الآخرة وأهوالها، يبحثون عن ذلك بطرق متعددة وغير مشروعة إما عن طريق الربا في البنوك أو عن طريق الغش والاحتيال أو عن طريق الغلول والسرقةو الميسر وما إلى ذلك، فتلهيهم حلاوة المال والتلذذ بما مآله الزوال ولو بقي سنوات طوال ويغمضون أعينهم عن كل نصيحة أو موعظة، ويضربون بأمر ربهم عرض الحائط ويدعون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم فيختطفهم الموت وهم غارقون في خدمة معبودهم وشهواتهم، ذلك هو الخسران المبين؛ هؤلاء موتى ولو ظهروا للناس بأنهم أحياء لقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ
إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء!
إنما المَيْتُ من يعيش كئيبـاً
كاسِفاً بالَهُ قليلَ الرجـاء!
أجارنا الله تعالى وإياكم من الخسران المبين واستغفر الله جل وعلا لي ولكم ولجميع المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الخلق وأرشدهم إلى الثبات على الإيمان والحق ونهاهم عن الشرك والتفرق…
أيها الأحباب الكرام:
نستفيد مما سلف درسا جديدا لكل المخدوعين ببريق الدنيا وسرابها المغترين بما هم فيه من صحة وعافية ونعم يعملون لحطام الدنيا فقط وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فأضاعوا حياتهم وأفنوا أعمارهم فيما لا يسمن ولا يغني من جوع، وفهموا الحياة بالمقلوب فأصبحت الغاية وسيلة والوسيلة غاية وأصبح اللب قشورا والمجد غرورا نظرا لتقلب كثير من المسلمين في إيمانهم وأعمالهم، وفي تصوراتهم وتصرفاتهم وعدم استقرارهم وثباتهم على طاعة الله وطاعة رسوله قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين (الحج: 11).
والمسلم الموفّق هو صاحب القلب السليم الذي لا تهزه رياح الفتن وصاحب الإيمان القوي الذي لا تزعزعه الشبهات ولا تنقص من إيمانه الشهوات التي لا ترضي الله تعالى، وسلم من تطبيق خبر يتناقض مع وحي الله، وسلم من عبادة غير الله، وسلم من تحكيم غير شرع الله.
أيها الأخوة الكرام:
تأكدوا أن ديننا وإسلامنا من دون محبة وثبات واستقرار على طاعة الرحمن كالجسد من دون روح ومن المعلوم أن المحب لمن يحب مطيع, فالذي يحب الله خالصا واثقا به سبحانه هو الذي يطيعه ويحمده وقت الرخاء والشدة ووقت الفرح والحزن. إنه الله تعالى الذي ليس لنا رب سواه, والذي أنعم علينا بنعمه التي لا تحصى ولا تعد, فهو الذي يستحق الحب من القلب والطاعة التي ليست مصحوبة بشرط ولا شك…
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…
ذ. نجيب الهداجي