المشهد الأول: أثارني تسجيل مرئي، يُتناقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يحكي فيه صاحبه عن مظهر اجتماعي يعبر عما تتمتع به دول غربية من أمن اجتماعي، حيث يبدو من خلال الشريط متجرٌ في الهواء الطلق على طريق رئيسية تُعرَض فيه البضائع من منتوجات ضيعات مجاورة، دون أن يكون في هذا المتجر بائع أو حارس للمعروضات أو حتى لصندوق النقود، بل إن الذي يتوقف من المارة يأخذ ما يريده من المعروضات، ويترك الثمن المبيَّن عليه في الصندوق، دون أن يراقبه في ذلك أحد، أو يضبط سلوكه أحد، أو يطلب الأداء منه أحد، بل يكون ذلك بدافع ذاتي وحافز طبيعي، نتيجة ما يعرفه ذلك البلد من أمن اجتماعي ورغدِ عيشٍ وطمأنينةٍ في الحياة.
لكن اللغة المعتمدة في الشريط مهجنة في غاية التهجين، فهي خليط بين الدارجة والفرنسية بشكل مقزز، من مثل قول صاحب الشريط، وهو يبين أن المحل التجاري لا يوجد فيه أحد، وأستسمح القارئ الكريم في نقل بعض العبارات: ما كايَنْ نِي عسّاس، نِي باراج، نِي بوليسي… كاين دي برودوي (des produits)..
المشهد الثاني: تسجيل مرئي آخر، يُتناقل أيضا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتقرير مصور أنجزته قناة فرنسية عن استعمال الفرنسية، أو ألفاظ منها على الأقل، في الشارع، بأحد البلدان المغاربية، واختار منجز التقرير أن يكون المجال المعبر عن الظاهرة أحد الأسواق، ربما باعتباره المجال الشعبي الأكثر دلالة عن الظاهرة. ويبدو من خلال هذا التقرير المصور أن استعمال الفرنسية، أو ألفاظ منها، ظاهر على ألسنة الناس بشكل لافت، مما يعني أن المكان وكذا البلد اختيرا بعناية فائقة لتسويق مقولة الفرْنَسَة التي يدعو إليها دعاة التغريب بشكل كبير هذه الأيام في البلدان المغاربية جمعاء.
متجر هناك وسوق هنا، واللغة المهجنة واحدة، هي العربية لا غيرها، جهدت في أن أجد لغة أخرى حتى من لغات الشعوب المستضعفة من أمثالنا تتقاسم الدور، في الاستعمال الواحد، مع لغة أخرى فلم أظفر بشيء، كل الناس والشعوب يعتزون بلغاتهم الوطنية، وكلٌّ يعتقد في لغته أنها حية يمكن أن تساير التطور العلمي، وكل مؤسساتهم الرسمية ترعى ذلك وتدافع عنه، لأن الكل يعتقد، نظريا أو عمليا، أن أمر اللغة مرتبط بالهوية والفكر ولذلك نرى جل الأمم ذات الشأن في عصرنا الحاضر لا تفرط في لغاتها، ولا تدنسها بالتهجين والاقتراض المُفلس من اللغات الأخرى، باستثناء الناطقين بالعربية، فإن أمر لغتهم أصبح عند العديد منهم يشكل تخلفا وعدم مسايرة للعصر، لذلك فإن استعمال لغة أخرى أو اقتراض ألفاظ منها يعتبر حداثة وتطورا.
ولذلك لم أجد، في هذا المقام وفي غيره من المقامات، إلا استحضار قول حافظ إبراهيم رحمه الله:
رَجَعْتُ لنفْسِي فَاتَّهَمْتُ حَصَاتِ وَنَادَيْتُ قَوْمِي فَاحْتَسَبْتُ حَياتِي
رَمَوْنِي بِعُقْمٍ فِي الشَّبَابِ وَلَيْتَنِي عَقِمْتُ فَلَمْ أَجْزَعْ لِقَوْلِ عُدَاتِي
وَلَدْتُ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي
أيُّ أمن اجتماعي ننادي به ونطالب، ونحن لا نستطيع أن نؤمِّن حتى لساننا من التهجين، وكأننا حكمنا على لغتنا الفصيحة، وحتى الدارجة المتداولة بالعقم وعدم مسايرة العصر..؟!
إن الأمن اللغوي في اعتقادي هو جزء من الأمن الاجتماعي، بل لا يمكن أن يحصل أي أمن اجتماعي دون أن يكون هناك أمن لغوي، ذلك الأمن الذي يتجلى في اعتماد اللغة الرسمية للبلاد والمعبرة عن الهوية الحضارية للأمة، وأما اعتماد اللغات الأجنبية اقتراضا أو استعمالا فلا يؤدي إلا إلى التجاذبات والحزازات الاجتماعية، بسبب تعدد الولاءات الناتج عن تعدد اللغات، ومع هذا التعدد تفسد قضية الود كلها.
إن اللُّغة –أي لغة- هي عنصر أساسي لهوية الشعوب والأمم، لسبب بسيط، وهو أنها أقدمُ تجليات الهويَّة، فاللغة هي التي صاغتْ أوَّل هويَّة للجماعة البشرية في تاريخ الإنسان، وبما أنها كانت كذلك فإنها كانت تشكل سَدَى النسيج الاجتماعي وأساسَه، ومن ثم كان الغريب في أي جماعة لغوية هو غريب اللسان، قبل غرابة الوجه والفكر. وأحسب أن هذا المُقَوِّم ما زال حاضرا في المجتمعات البشرية في العصر الحاضر، حيث أصبح أو كاد الصراع اللغوي جزءا من الصراع الحضاري، ولو أن ذلك يجري في صمت؛ لأن هوية الأمم بلغاتها وفكرها قبل أن يكون بعلمها وإنتاجها، كما أن أمنها الاجتماعي يبدأ بأمنها اللغوي.
د. عبد الرحيم الرحموني