موقع التفكير في منظومة المنهجية الإسلامية (2/2)


7 – حركة العقل المسلم بين الإطار الثابت والمحتوى المتحرك:
فالعقل المسلم وهو يعمل ويتأمل وينتج فإنما يعمل في ظل إطار ثابت ومحتوى متحرك في ذات الوقت، وبيان ذلك أن الإسلام لا يترك العقل يسبح في خضم المتغيرات المتحركة دون أن يرده إلى نهايات هي المعيار والفيصل والحكم حتى لا يتورط في حلقات مفرغة من الدور أو التسلسل أو غير ذلك من التناقضات، وهذا ما نسميه “الإطار الثابت”، ويقابله مجال آخر هو “المحتوى المتحرك” الذي يمثل مساحة كبيرة لعمل العقل تأملا واجتهادا وإنتاجا، وبهذه المعادلة استقام العقل المسلم فهو يجتهد في محل الاجتهاد ويسلم في محل القطع والثبات.
وبناء على ما سبق نقول: إن الإسلام في منظومته الفكرية ومنهجيته البحثية والمعرفية يعلمنا أن نرد الظني إلى القطعي، والمجهول إلى المعلوم، والمتغير إلى الثابت، لننتهي إلى شيء عملي منطقي مفيد، وبهذا امتاز العقل المسلم بالمرونة والإبداع وإنتاج المعارف والأفكار، مع استقامة ورشاد في ظل الإطار الكلي الثابت، وعلم المسلم وهو يمارس فريضة التفكير وفضيلة التأمل أنه لا يجوز أن يحول الثابت إلى متغير، ولا العكس، ولذلك نحن نرفض ونحتقر كل محاولة تدعو إلى ما يسمونه ” النسبية المطلقة” التي تعتبر كل شيء متغيرا، زاعمة أنه لا حقيقة ثابتة في هذا الوجود.
8 – بين إنتاج المعرفة واستيرادها:
إن المعطيات الإسلامية في مجال التفكير تؤهل المسلم لعملية إنتاج هائلة للمعرفة تعمر بها الحياة ويسعد بها الناس، لأنها معرفة أساسها الوحي وغايتها تحقيق المصالح، ففيها من النور والرشاد ما يؤهلها أن تكون متبوعة لا تابعة، ومع هذا التميز والاستقلال يفتح الإسلام عقل المسلم على كل نافع من معارف الآخرين،
لا تحقرن الرأي وهو موافق
حكم الصواب إذا أتى من ناقص.
إلا أن هذا القبول لمعارف الآخر يتم وفق منظومة انتقاء وتمييز واختبار وتحليل، بحيث لا يمرر العقل إلى محيطه الإسلامي إلا ما كان حكمة وصوابا، يقول رشيد رضا: “أما الشعوب التي تقتبس شرائع شعوب أخرى، بغير تصرف ولا اجتهاد فيما تحوله إلى ما يلائم عقائدها وآدابها ومصالحها التي كان الشعب بها مستقلا بنفسه، فإنها لا تلبث أن تزداد فسادا واضطرابا، ويضعف فيها التماسك والاستقلال الشعبي فيكون مانعا من الاستقلال السياسي وما يتبعه” (الخلافة: 89)، وهذا الفرز والتمحيص هو ما نسميه الهيمنة على فكر الآخر:
9 – فقه الترتيب والأولويات من خصائص المنهجية الفكرية الإسلامية:
لكل شيء رتبة تليق به، سواء في ذلك المحسوسات والمعنويات، وقد أرشد الإسلام العقل إلى سُلَّم الأولويات، وتواترت النقول الشرعية من نصوص الوحي، وكذلك مقالات علماء الإسلام في الدلالة على أن العاقل ليس هو من تقف معرفته عند حدود الخير والشر فقط، بل الواجب معرفة خير الخيرين وشر الشرَّين، وهذا الفقه من شأنه أن يرفع همة المسلم في تحصيل الكمالات فلا يقبل بالدون ولو كان خيرا، ويدفع أعلى الشرين بارتكاب أدناهما عند التزاحم، وهذا باب من الفقه واسع ودقيق وخير من كتب فيه العز بن عبد السلام في كتابه: “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، ولابن تيمية نصوص مفيدة في هذا الموضوع في فتاويه، وهذه السمة المتميزة لمنهجية الفكر في الإسلام تشغل الأمة في مسيرتها الحضارية بالمفيد المؤثر وتصرفها عن كل نازل تافه، وكذلك ترفه همة أبنائها على المستوى الفردي إلى مدارج العظماء لتكون لحياتهم معنى ولسلوكهم هدف ينتهي إلى الفردوس الأعلى.
وعلى أهل الفكر والمربين والموجهين أن يلقنوا الجماهير هذا المبدأ بالذات لتنتهي جماهير المسلمين عن كثير من التفاهات والسفاسف العلمية والعملية التي غرقوا في خضمها، والتي أضاعت أعمارهم وحرفت بوصلة حركتهم في الحياة عن الغايات العظمى.
10 – وحدة المعرفة وتكاملها:
ذكرنا آنفا أن التناسق والتوازن من أبرز سمات منهجية التفكير الإسلامي، ومن مقتضيات ذلك تكامل المعرفة بحيث تُكوِّن نسقا متناغما لا يعرف التناقض أو الاضطراب، وقد وصف المفكرون المسلمون المعاصرون معارفنا التراثية وصفا دقيقا هو: “التكامل المعرفي”، والذي يعني التواصل بين أنواع العلوم والمعارف، وحاجة كل فرع إلى غيره، وخدمة بعضها بعضا، ولم نعرف في تاريخنا العلمي والعملي فصلا أو انفصالا بين علوم الشرع وعلوم الحياة، ولا بين معرفة الإنسان بدينه ومعرفته بنفسه أو معرفته بالكون حوله، ذلك أن النظرة الحقيقية تؤكد أن القرآن والإنسان والكون وحدة واحدة متواصلة لا تتجزأ، فالكل من الله تعالى، ومن هنا فلا تعارض ولا تضاد ولا تناقض في المعرفة الإسلامية، ولذلك لم نجد تعارضا بين الدين والعلم كما وقع في المسيحية، ولا تعارضا بين الشرع والعقل كما يزعم العقلانيون العلمانيون اليوم.
وبقراءة سريعة في تراجم علمائنا المتقدمين نجد روح الموسوعية بادية في حياتهم العلمية، فلم ينعزل أحدهم في مجالٍ أو تخصص دون أن تكون له مشاركات في سائر الفنون فأخرجوا للأمة رؤية متكاملة للدين والإنسان والكون، ثم جاءت التخصصات العلمية المعاصرة بفروعها الدقيقة فجنت جناية بالغة على رؤيتنا الإسلامية المتكاملة، ولذا وجب أن تصاغ علومنا ومنهاجنا الدراسية مرة أخرى بروح التكامل والتعاضد رجوعا إلى المنهج الأول الذي لم يعرف هذا الانفصال النكد بين المعارف.

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>