خواطر في تدبر القرآن الكريم


مما ﻻ ريب فيه أن المؤمن ﻻ يشبع من القرآن الكريم، تلاوة وتدبرا وتخلقا، كيف ﻻ وهو كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه وﻻ ينحصر مدده لكل من جاءه طالبا للهدى، متدبرا ﻵياته، متأملا لخطابه وإشاراته.
وقد نشرنا على هذه الصحيفة الغراء، بعضا مما فتح الله به من الخواطر والنظرات في تدبر كتاب رب الأرض والسموات، وهذه بفضل الله ومنته حلقة ثانية في هذا السبيل، نسأل الله تعالى فيها أن يصلح نياتنا ويسدد أفهامنا ويحعلنا من أهل القرآن وخاصته الذين يتدارسونه ويعملون به.
11 – وصف الله  نفسه في كتابه بقوله:
ﻻ تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (اﻷنعام: 104).
والمعنى أن أبصار الخلق عاجزة عن الإحاطة بذات الخالق في هذه الدار الفانية، لكن ما تعذر على البصر، هو في مقدور البصيرة التي يسر الله عليها إدراك جلاله وجماله وكمال ألوهيته سبحانه، فكما يدرك البصر عالم المحسوسات، تدرك البصائر المعاني والحقائق، ومن ثم فإن العمى الحقيقي هو عمى البصيرة عن رؤية الحق ولزومه كما قال تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (الحج: 44).
12 – تقدم لنا في سورة الأعراف المسار التاريخي لرسالة الأنبياء في دعوتهم إلى الله وكيف أن جوهر دعوتهم واحد، وذلك من أول المرسلين إلى أهل الأرض وهو نوح عليه السلام الذي دعا قومه إلى عبادة الله وحده كما قال تعالى:
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (58).
ثم كان تعاقب المرسلين على نفس المنوال والمنهاج: دعوة إلى تحقيق مقصود الرب سبحانه من خلق الإنس والجن كما تبين لنا اﻵيات التي قصت علينا أخبار بقية اﻷنبياء في هذه السورة:
- وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفﻻ تتقون (64).
- وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم (72).
- وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم (84).
نتعلم من هذه اﻵيات البينات أن الدين عند الله واحد ﻻ يختلف، وإن تعددت الشرائع والأحكام الفرعية ﻻختلاف اﻷزمنة والأمكنة، ولذلك حسم ربنا القول: إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، كما نتعلم أن أول ما يجب أن نضعه نصب أعيننا هو اﻻستجابة للخطاب السماوي الخالد: أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فما خلقنا ربنا الحكيم الخبير إﻻ لهذا المقصد العظيم: وما خلقت الجن والإنس إﻻ ليعبدون .
13 – كما تقدم لنا سورة في الأعراف جوهر وأساس رسالة الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة الله، فإنها تبين لنا أيضا ارتباط الدين بالحياة، وأنه موجه لها وضابط لمسارها حتى ﻻ يقع اﻻنحراف والفساد، وهذا ما يتجلى لنا مثلا مما قصه علينا القرآن من برنامج دعوة نبي الله شعيب عليه السلام؛ يقول تعالى:
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان وﻻ تبخسوا الناس أشياءهم وﻻ تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين وﻻ تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (84 – 85).
إنها دعوة شاملة تتضمن أسس ومرتكزات الصلاح والإصلاح:
- دعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة.
- دعوة إلى ضبط النشاط اﻻقتصادي بميزان العدل والوفاء فأوفوا الكيل والميزان وﻻ تبخسوا الناس أشياءهم .
- نهي عن كل أنواع الفساد ودعوة للمحافظة على الصلاح في كل أبعاده : إنسانا ومجتمعا وبيئة..
- دعوة إلى الكف عن محاربة المؤمنين ودعاة الإصلاح وعن معاكسة جهود الخير كما يفعل كثير من أعداء الإصلاح اليوم: يبغونها عوجا.
فهل نغتر بعد كل هذا بمن يزعم انفصاما بين الدين والدنيا، بين الشريعة والحياة؟
14 – بين الإرهاب والإسترهاب:
وأنا أقرأ قصة نبي الله موسى مع الطاغية فرعون، استوقفتني عبارة دالة في اﻵية الكريمة التي تتحدث عن لحظة المبارزة بين موسى وسحرة فرعون. قال تعالى:
قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (اﻷعراف: 116).
والمعنى الذي يتبادر إلى الذهن أن السحرة أفزعوا الناس وخوفوهم خوفا شديدا حيث خيلوا لهم ما ألقوا من حبال وعصي حيات تسعى وأوهموهم أن ما فعلوه حقيقة ﻻ وهم. لكن لماذا قال الحق سبحانه (استرهبوهم) وليس فقط (أرهبوهم)؟
إن العمل الذي قام به سحرة فرعون ليس فقط إخافة الناس بما هو طبيعي وواقعي، بل إن عملهم كان عبارة عن جهد عظيم وكبير لصنع حالة من الخوف والرهبة عند الجمهور بالسيطرة على عقولهم وإدراكهم من خلال ما ملأوا به أعينهم من مشاهد مصطنعة، أي بتعبير الراغب الأصفهاني: حملوهم على أن يرهبوا وقريب منه عبارة الزمخشري في الكشاف: أرهبوهم إرهابا شديدا، كأنهم استدعوا رهبتهم . أما الطاهر بن عاشور فقد خص هذا اللفظ بمزيد بيان، حيث قال في التحرير والتنوير: واﻻسترهاب: طلب الرهب أي الخوف، وذلك أنهم عززوا تخيلات السحر بأمور أخرى تثير خوف الناظرين لتزداد تمكن التخيلات من قلوبهم، وتلك اﻷمور أقوال وأفعال توهم أنه سيقع شيء مخيف كأن يقولوا للناس: خذوا حذركم، وحاذروا، وﻻ تقتربوا، وسيقع شيء عظيم، وسيحضر كبير السحرة، ونحو ذلك من التمويهات، والخزعبلات، والصياح والتعجب .
الخلاصة التي يمكن الخروج بها: إذا كان الإرهاب إخافة للناس وترويعا لهم، فإن (اﻻسترهاب) في نظري مصطلح قائم يحمل مفهوما متكاملا يدل على اصطناع حالة (إرهابية) تمكن صاحبها من نشر الخوف والرهبة عند فئة من الناس بقصد استغلال الحالة وما ينتج عنها ﻷغراض السيطرة والتمكين للطغيان . وبمتابعة ناقدة لما يجري اليوم في كل بقاع العالم نلاحظ كيف يستخدم (اﻻسترهاب) للحرب على الإسلام والمسلمين وحرمان ذوي الحقوق من حقوقهم.
آن لنا أن نبين للناس حقيقة ما يجري ونكشف لهم مفهوم اﻻسترهاب ، كما ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون .
15 – قاعدة عامة جعلها الله سبحانه مطردة ﻻ تتخلف، يخضع لها المؤمن والكافر، البر والفاجر، أخبرنا بها سبحانه وتعالى بقوله:
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (اﻷنفال: 53).
إنه العدل والحكمة ليثبت الناس على الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، ويلتزموا شرعه ومنهاجه ليديم عليهم نعمه وعطاياه، فالنعمة ابتداء هي من الله حسبما اقتضت حكمته ومشيئته، لكن بقاءها مرتبط ببقاء الحال الذي اقتضى منة الإنعام. ودوام النعم منوط بشكرها، وزوالها متعلق بكفرها وجحودها.

ذ. أنور الحمدوني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>