كنت أتابع نشرة أخبار بالعربية على قناة تبث برامجها من بلد أوروبي، وللمرة الثالثة يلفت انتباهي أن مقدمة الأخبار ترتدي خمارا على رأسها، بمعنى أن هناك ثلاث نسوة على الأقل يظهرن على شاشة هذه القناة وهن محجبات، هذا مع أن هذه القناة تابعة لشركة مستقلة، وهي وإن كانت تدّعي الحياد فإنها اتُّهمت أكثر من مرة بالتحيز ضد القضايا العربية والإسلامية، الأمر الذي جر عليها انتقادات من قبل أطراف عديدة، من بينها حكومة البلد المحتضن لمقرها، وإن كانت إدارتها قد نفت مثل هذا الانحياز.
وكيفما كان الحال فإن القناة أوروبيةٌُ، وليست في بلاد عربية أو إسلامية، وهي متهمةٌ بالتحيز ضد القضايا الإسلامية والعربية، ومع ذلك تسمح بظهور نسوة محجبات على شاشتها دون أي تمييز على أساس المعتقد أو الفكر أو السلوك، ودون أيّ خشيةٍ من الاتهام بما تثيره العديد من القنوات في هذا المجال زعماً وتَقَوُّلاً، أو توقُّعِ عدم مشاهدةٍ أو نفور من قبل المشاهدين المتعصبين، مع العلم أن هذه القناة مع قنوات أخرى مماثلة تابعةٍ لنفس الشركة، والناطقة بعدة لغات، تحقق مئات الملايين من المشاهدين في أكثر من مائة دولة.
وبذلك فإن هذه القناة تعكس النسيج الاجتماعي الذي لا يخلو منه أي بلد، بما فيه البلد المحتضن لمقر هذه القناة، ذلك لأن العالم أصبح قرية صغيرة جدا، وجلُّ البلدان فيه يمكن أن تجد فيها العديد من الأعراق والديانات والمعتقدات والأفكار والسلوكات والمظاهر والأزياء واللغات، وحتى إن لم يكن ذلك متجليا وباديا بين مواطني تلك الدول، فإنه يمكن أن يوجد بين من يرتاد تلك الدول من السائحين والتجار والباحثين عن عملٍ ونحوِ ذلك.
ويعود المرء ببصره إلى واقع بلداننا العربية والإسلامية التي يوجه إليها الخطاب من قبل القناة السابقة الذكر ومن غيرها من القنوات الأوروبية وغير الأروبية، لنرى واقعا آخر، مريرا بكل ما تحمله المرارة من معنى، إذ أن العين لا تخطئ ما تعانيه من تمييز اجتماعي يكاد يكون عنصريا إن لم نقل فِكريا أو إيديولجيا / دينيا…
ذلك أنه لا يسمح على الإطلاق بأن تظهر أي سيدة محجبة على شاشات قنوات هذا البلد، نعم… يُسمح بظهور كل الأطياف والألوان إلا طيف المحجبة، وكأن ظهورها جريمة ضد المجتمع، مع أن هذا المجتمع فيه كل المظاهر، وفي مقدمتها مظهر المرأة المتحجبة. ولذلك فإنه من الغريب جدا أن تتجلى هذه الأطياف أو المظاهر، بما في ذلك مظهر المرأة المحجبة، في أكثر من قناة غربية ولا تبدو عندنا في قنوات بلدنا العزيز هذا، الذي يعد بحمد الله بلدا إسلاميا عريقا، وزيُّ الحجاب فيه منتشرٌ وأصيل، سواء أكان ذلك بدافع الالتزام بتعاليم الدين، أم بدافع المحافظة والتقليد، أم حتى بدافع «الموضة» كما يدعي البعض ويتحدث، هو حاضرعلى كل حال، وهو مظهر من مظاهر اللباس، فلِمَ لا يكون «ممثَّلا» على شاشاتنا وقنواتنا، ولِمَ يتم إقصاؤه بشكل فظيع، إلى درجة أن بعض جمعيات المجتمع المدني رفعت شكوى في الموضوع إلى الأمم المتحدة.
واللافت للانتباه أن التمييز ضد المتحجبة لا يتجلى فقط في مجال الإعلام المرئي، بل في العديد من القطاعات، إذ أن الكثير من مكاتب الاستقبال، أو المكاتب التي تحتكّ بالجمهور لعدد من الشركات والمؤسسات الخاصة لا مجال فيها للمتحجبات، ولا حق لهم في الوجود فيها، بل حتى بعض المدارس العليا العمومية يمنع على المحجبات ولوجها إلا بخلع الحجاب، وهذا فعلا أمر غريب كل الغرابة، بجميع المقاييس، خاصة إذا قارنا بين هذه المظهر والمظهر المشار إليه في بداية المقال.
لقد تناقل الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورا شتى لمسلمات في بلدان مختلفة وهن يزاولن أعمالهن بالحجاب، بما في ذلك صورة لشرطية في بلد أوروبي، تناقل ذلك الناس وهم يعبرون عن إعجابهم بمدى حرية تلك البلدان أولا، وبقدرة المحجَّبة على مزاولة كل الأعمال دون أن ينتقص الحجاب من حسن أداء عملها أو يؤثر ذلك على مظهرها، أو أن يثير سخرية وتقززا لدى الآخر، بل على على العكس من ذلك تماما…
فمتى يكون لفتياتنا ونسائنا في بلدنا الحرية في ارتداء الحجاب في جميع الأماكن وفي سائر الأعمال وعلى جميع مقاعد الدراسات الجامعية العليا؟؟!!
د. عبد الرحيم الرحموني