تناول الأستاذ الكريم في الحلقة الأولى بيان معاني آيات السورة، وإبراز ما تضمنته من مشاهد عن يوم القيامة، ويواصل في هذه الحلقة بيان أهم ما ترشد إليه هذه المشاهد من هدايات وتوجيهات منهجية.
أولا – من أعظم المولدات الإيمانية في طريق سير العبد إلى الله قراءةُ وتدبرُ الآيات والسور التي تتحدث عن أهوال القيامة، وما ينتظر العباد من مصير أخروي، فاحرص أيها الأخ الكريم على تقوية زادك الإيماني بالتعرف على أحوال الآخرة لتستعد لها قبل فوات الأوان. سأل النبي رجلٌ فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: «أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة» (أخرجه ابن ماجة والطبراني والبيهقي وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1384).
ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاؤها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح، هاج في قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو (طريق الهجرتين ص(425)).
فتذكر الآخرة وأهوالها يولد الرغبة في تقوية الصلة برب العالمين، و يبعث في القلب الحرص على فعل الطاعات والقربات، وتجنب المعاصي واتباع الشهوات، طلبا للنجاة من شدائد الآخرة وكرباتها. وما أقربها منا لولا الغرور بالدنيا وزينتها وطول الأمل. لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها (من الحكم العطائية).
ثانيا – إن الله لا يجمع لعبده بين خوفين أو أمنين. فمن أمنه في الدنيا ولم يتقه، وانغمس في فعل ما يسخط ربه، ولم يراع حرمات الله، خوفه الله في الآخرة، و أذاقه من صنوف شدائدها مالا يعلمه إلا الله تعالى. ومن خاف الله في الدنيا واتقاه واتبع هداه، أمنه في الآخرة ووقاه شر أهوالها. قال تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة (فصلت: 29-30). وقال تعالى: من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (91-92).
ثالثا – ورد في الحديث أيضا تشبيه للناس في علاقتهم بنبيهم ودينهم وقيمهم ومدى الثبات عليها بالفراش. فعن جابر قال: قال رسول الله : «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي» (رواه مسلم 218). وفي رواية أخرى «إنما آخذ بحجزكم من النار وأنتم تتهافتون تهافت الفراش». قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته وهي صغيرة النفس فإنها جاهلة سريعة الحركة… ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه أنه استخفه. قال تعالى عن فرعون إنه استخف قومه فأطاعوه (الزخرف: 45) وقال: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (الروم: 60). فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش, وصاحب اليقين ثابت (الفوائد (190-191) دار القلم للتراث).
فمن أي صنف تختار لنفسك أن تكون أيها الأخ الكريم؟ هل من الذين تستخفهم أي دعوة أو شهوة أو شبهة، وينفد صبرهم عند أي صدمة أو ابتلاء، أم من الموقنين الذين استقر الإيمان في قلوبهم علما وعملا, قولا وفعلا, ولا يطيشون في سراء و لاضراء؟. فلمثل هؤلاء تكون الإمامة في الدين قال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (السجده: 24). ورد عن الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته, وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك، وذكر هذه الآية (الفوائد 191).
رابعا – لا تجعل يا أخي الفاضل همتك متعلقة بسفاسف الأمور، وأتفه الأشياء، وتنفق أغلى ما تملك من وقتك وشبابك فيما لا طائل من ورائه، وتضيع فرصة عمرك الوحيدة تابعا للسراب، وما مآله الخراب، بل متهافت على ما فيه هلاكك وحتفك، كما يحوم الفراش ويتهافت على النار.
لقد تعلقت همة الإمام البخاري رحمه الله بتنقية سنة رسول الله وغربلتها لتمييز الصحيح من الضعيف، فألف جامعه الصحيح في مدة ستة عشر سنة من الكد والجد والترحال. فلما أتمه قال: جعلته حجة بيني وبين الله . وتعلقت همة محمد الفاتح بفتح القسطنطينية، وندب حياته كلها ليفوز هو وجيشه بشرف نعم الأمير أميرها ونعم الجيش جيشها ، فكان له ما أراد. وتعلقت همة صلاح الدين الأيوبي بتحرير بيت المقدس من قبضة الصليبيين، فاستجمع الشروط المادية والإيمانية لتحقيق ذلك، فما تخلف النصر ولا استحال.
فبأي شيء تعلقت همتنا يا أخي وعزائمنا!؟ حول ماذا يدور تفكيرنا واهتمامنا!؟ وفيما تبذل جهودنا وطاقاتنا!؟ وما حدود أحلامنا وطموحاتنا!؟ إن كل غيور يتأمل واقع أمتنا اليوم، وأحوال أبنائنا وشبابنا يمتلئ قلبه مرارة وأسى وحسرة، ويكاد كبده يتفطر حزنا وكمدا، لهذا الحضيض الذي نزلنا إليه. والله المستعان على ما يشاهد ويوصف. ونرجوه أن يرد بنا إليه ردا جميلا.
خامسا – إن قيمة العبد عند الله تعالى وثقل وزنه ليس في حجمه وصورته، أو فيما يملكه من المال والمنصب والجاه والسلطة والشهرة بين الناس، وما يكال له من المدح والثناء بحق وغير حق، وكثرة الأتباع و المصفقين… إنما ذلك فيما يقوم به من أعمال صالحة من تزكية للنفس بالطاعات والمسارعة إلى أنواع البر والقربات والتخلق بقيم المحبة والأخوة, والتواضع والرفق والرحمة، وما إلى ذلك. ورد في حديث «أن ابن مسعود كان يجني سواكا من أرك وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول الله مم تضحكون؟ قالوا يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد» (رواه الإمام أحمد في مسنده بسند جيد قوي كما قال الحافظ ابن كثير وغيره).
وعكسه فيما ورد عن أبي هريرة أن النبي قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة, وقال اقرؤوا «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» (رواه الشيخان).
قال الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال وثقل الموازين وخفتها تفيدنا: قيما لها عند الله اعتبار, وقيما ليس لها عنده اعتبار (6/3961). ولا شك أن ثبات المرء في الدنيا والآخرة يكون بقدر تمسكه بالقيم التي لها اعتبار عند الله سبحانه و تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (إبراهيم: 27) و قال تعالى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم و أشد تثبيتا (النساء: 65).
سادسا – إن قضية الموازين المذكورة في هذه السورة وغيرها كقوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين (الأنبياء: 47) تهز السمع وتنبه القلب الحي إلى ضرورة الوقوف مع النفس وقفات للمحاسبة الجادة. محاسبة الشريك الشحيح لشريكه غير المؤتمن، قبل فوات الأوان، لنتدارك ما يمكن تداركه فيما وقع فيه تفريط و تقصير وإنقاد ما يمكن إنقاده فيما بقي من العمر, فنصلح بالتوبة النصوح ما فات، ونصلح بالإحسان ما هو آت. فلنحاسب أخي الكريم أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنزنها قبل أن نوزن، ولنستعد للعرض الأكبر على الله. ولنضع نصب أعيننا هذه العلامات التي أشار لها الإمام ابن القيم: من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم… . فما حظنا من هذه العلامات؟ وما مدى وجودها في طريقنا ونحن سائرون إلى ربنا للحساب والجزاء؟
سابعا – مسائل الغيب عامة ومسائل القيامة وأخبارها تؤخذ مسلمة ويؤمن بها كما ورد بها الوحي:
إياك و محاولة البحث لمعرفة كنه وحقيقة مثل هذه الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها. ومنها موازين يوم القيامة، وكيف هي؟ أو حتى الدخول في جدالات عقيمة مع من ينكرون هذه الأمور أو يؤولونها تأويلات لا أساس لها من الصحة عقلا ولا نقلا: فالدخول في جدل عقلي و لفظي حول هذه التعبيرات هو جفاء للحس القرآني, وعبث ينشئه الفراغ من الاهتمام الحقيقي بالقرآن والإسلام (الظلال 6/3961).
فأعمال العباد ستوزن لا محالة بموازين كما أخبر سبحانه، وبالكيفية التي يعلمها هو جل وعلا. من كان يدرك أو يتوقع قديما أن الحرارة والبرودة يمكن أن توزن, حرارة الطقس وبرودته, وحرارة الأرض وبرودتها، وحرارة الأبدان وبرودتها، وما أشبه ذلك، حتى تطور العلم وظهرت التكنولوجيا الحديثة؟ فله في خلقه شؤون، وقدرته لا حدود لها وهو القائل سبحانه: ويخلق ما لا تعلمون (النحل: 8) والقائل: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء: 85).
ثامنا - الإخبار عن النار وعذابها وأهوالها بقصد تصحيح السلوك واستقامة العباد:
أتستشعر أيها الأخ الكريم مدى خطورة عذاب جهنم!؟ هل تتخيل كيف ستحتضن هذه الأم الهاوية أبناءها وتضمهم، مجرد خيال!؟ أتقدر هذا الوصف لها من قبل رب العالمين بأنها نار حامية !؟ هل سبق لك تجربة ولو مرة واحدة مع نار الدنيا فأصبت ببعض حرها أو لهيبها!؟ نار الدنيا هاته التي تحدث حرائق مهولة، فإذا كانت لا يمكن أن يطيقها إنسان، فكيف يطيق نار الآخرة، التي لا تمثل منها نار الدنيا إلا جزءا من سبعين جزءا، كما ورد في بعض الآثار.
فلا تتردد يا أخي في القيام بما تقي به نفسك وأهلك هذه النار. استجابة لأمر الله تعالى: قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس والحجارة (التحريم:6)، وذكِّر غيرك بهذا اقتداء بسنة البشير النذير الذي بعث رحمة للعالمين. فعن عدي بن حاتم أن النبي ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها. ثم ذكر النار فتعوذ منها. ثم قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» (رواه البخاري ومسلم) وفي رواية لهما عنه قال: قال رسول الله : «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان. فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة». فكم تملك من تمرة وليس شقها فحسب، لو صدقت الله في عزمك، يمكن أن تنجو بها من نار جهنم. وكم من كلام يخرج من فيك لا تلقي له بالا بإمكانك أن تحوله إلى كلمات طيبة تنفعك غدا عند لقاء ربك.
تاسعا – الحذر كل الحذر من الخلود إلى الأرض، و الركون إلى الدنيا وزخارفها و أضوائها إنما هو بريق النار، وعين التهلكة التي نهينا أن نلقي بأيدينا إليها.
روى الترمذي وغيره وصححه عن أسلم بن عمران قال: كنا بمدينة الروم, فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم, فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر.. فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم, فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه, فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت, وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها … فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة … الآية (البقرة: 195). و كانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو… فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بأرض القسطنطينية.
والله ولي التوفيق
د. محمد محتريم