عن عائشة أن النبي قال: «ياعائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (صحيح مسلم).
بعد الكلام في المقال السابق عن الرفق في التدين، ارتأيت أن أتبعه في هذا المقال بالحديث عن الرفق في تبليغ الدعوة الإسلامية لما بينهما من ترابط غير منفصل، وذلك من خلال المحورين التاليين:
أولا: البدء بالأهم من أهم مظاهر الرفق في تبليغ الدعوة
1 – مجاهدة النفس وإصلاحها:
الواجب الأول الذي يقع على عاتق الداعية إلى الله تعالى؛ هو إصلاح نفسه أولا، ليكون قدوة لغيره؛ لأنه مراقب في أقواله وأفعاله من زوجته، وأولاده، وأقاربه، ومجتمعه، لهذا قالت عائشة في خلق الرسول: “كان خلقه القرآن” (مسند أحمد).
فالداعية غالبا لا يلتفت إلي سلوكه مع أهله وأقاربه؛ فربما يكذب أمامهم وهو يتحدث في الهاتف مع شخص آخر، وربما يتقاعس عن الصلاة، أو يتلفظ بكلام سيء وهو مطمئن لكونه في بيته، وربما يسيء العشرة مع أسرته، أو ينهج طريق العنف في التواصل معهم، وكل ذلك يفقده ثقتهم في دعوته.
فقول الرسول «ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف» فيه حكمة بالغة، وإشارة لطيفة مفادها؛ أن العطاء والنجاح الذي يسعى الداعية إليه في دعوته لا يحصل عليه بنفسه، بل بتوفيق الله جل وعلا وإرادته، وشرط تحصيل هذا العطاء، وتحقيق ذاك النجاح هو الرفق بالنفس، ومن أهم أوجه الرفق بها عدم تصنعه في سلوكه أمام الناس؛ لأن ذلك تكلف لا تطيقه النفس، ويصعب عليها الاستمرار عليه.
فليكن الداعية إذا مخلصا لله ، صادقا مع نفسه؛ كي يبارك الله سبحانه له في دعوته، ولْيتحل بالرفق والرحمة بين أهله وأصدقائه، ولينشد المرونة في تعاملاته كلها، قالت عائشة: “ما خير رسول الله بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه” (متفق عليه). وقال تعالى: فبما رحمة من الله لِنتَ لهم ولو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلب لانفَضُّوا من حولِك فَاعف عَنهم وَاستغفِر لهم (آل عمران: 159).
2 – الحرص على استقامة الأسرة:
قال تعالى: وَأنذر عشيرتك الأقربين (الشعراء: 214) الدعوة إلى الله تعالى تبدأ بالأسرة، فلا يجوز أن يلحظ الناس التناقض في حياة الداعية؛ إذ كثيرا ما يعيب الناس على بعض الدعاة عدم اهتمامهم بأسرهم التي يظهر فيها الانحراف، وسوء الخلق، وإعلان الفاحشة، فلا يثقون في كلامه، لهذا عليه أن يحرص على أمرين:
أولهما: أن يكون قدوة لأهله؛ فلا يكذب، ولا يداهن لحظ دنيوي، ولا يخون الأمانة، ولا يتنكر لقيمه ومبادئه مهما كانت الظروف، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا (التحريم: 8).
ثانيهما: أن يكون أفراد أسرته خاصة الزوجة والأبناء، على خلق حسن مع الناس، قال تعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها (طه: 132).
إن ملاحظة التناقض في حياة الداعية يجعل الناس يتعبون في فهم دعوته، فمن الرفق بهم أن يبدأ بإصلاح أهله ونفسه، قال: «من أعطي حظَّه من الرِّفق فقد أعطي حظَّه من الخير، ومن حرم حظَّه من الرِّفق فقد حُرِم حظه من الخير» (البخاري في الأدب المفرد). فالحديث يستفاد منه أن الخير كله في الرفق؛ وهذا يدل أيضا على أن مجاهدة النفس وإصلاح الأهل يجب أيضا أن يكون برفق.
3 ــ انفتاح الداعية على محيطه الاجتماعي:
لا يمكن للداعية أن ينأى بنفسه عن مشاكل مجتمعه الدينية، والتربوية، والاجتماعية، والاقتصادية… قال: «خير الناس أنفعهم للناس» (مسند الشهاب). فترك مشاكل الناس أثناء الدعوة إلى الله تعالى، خلل في المنهج، وانحراف في التصور.
فالرسول بدأ بمشكل بيئته أولا؛ وهو الشرك بالله تعالى، والانحراف في الأخلاق، وقدم ذلك كله على الأحكام الشرعية. فواقعنا يعرف مشاكل أخلاقية كثيرة؛ مثل العري، وشهادة الزور، والتشهير بأعراض الناس، وعقوق الوالدين، وظلم الضعفاء، والغش في العمل، وخيانة المسؤولية، فهذه أمور يعاني منها المسلم في حياته اليومية، وهي تحتاج إلى معالجة تربوية بأساليب معاصرة؛ فالداعية لا يتجاوز الأمور القريبة منه التي يلحظ الانحراف فيها إلى أمور أخرى ربما بعيدة عن كثير من الناس الذين يخاطبهم، فالبدء بالمشاكل الاجتماعية مثل قضايا الأسرة، والتعليم، وحسن المعاملة بين الناس، مقدم على قضايا الاقتصاد المعقدة التي تتحكم فيها أيادي خارجية يصعب التأثير فيها بمجهود فردي، وهذه مقدمة على قضايا السياسة التي ربما يجر الخوض فيها إلى الفتنة.
فمن باب رفق الداعية بالناس؛ أن يسع إلى معالجة مشاكلهم المشتركة بأسلوب لين، قال: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا» (صحيح مسلم).
فكلما كان خطاب الدعوة يلامس قضايا اجتماعية عامة تهم الشباب، والشيوخ، والنساء، كان ذلك أرفق بالناس وأنفع لشؤونهم، وأنجع في تحقيق أثر الدعوة في المجتمع، لهذا كان خطاب الرسول باعتماد الرفق عاما يشمل كل المجالات فقال: «من يُحْرَمِ الرفق يُحْرَمِ الخير».(صحيح مسلم).
ثانيا: ضوابط تحقيق الرفق أثناء الدعوة إلى الله
1 – تحديد الأهداف:
لا يمكن لأي داعية أن ينجح في دعوته إذا لم يسطر لنفسه أهدافا واضحة ومحددة، من حيث الزمن والمكان، ومن حيث تحديد الفئة المستهدفة، إذ لا يعقل أن يخاطب الناس بشكل عشوائي دون انتظام أو ترتيب معين يعتمده بشكل منهجي، فإذا لم يفعل ذلك فقد ينهك نفسه دون أن يحصل على نتيجة. قال:« إن هذا الدِّين متين فأوغلوا فيه برفق” (مسند أحمد). فمن رفق الداعية بنفسه وبالمخاطبين، أن يبين لهم دينهم بالتدرج وفق أهداف محددة.
2 – تنويع الوسائل:
إن تعدد الوسائل وتنوعها في الدعوة إلى الله فيه رفق كبير بالناس، فلا يعتمد الداعية على الوسائل التقليدية فقط كالمسجد، والمناسبات الدينية والاجتماعية لتبليغ الدعوة؛ لأن الكثير منهم لن يستطيع الحضور للاستماع إليه، أو ربما تحصل له مشقة بذلك لكونه مرتبطا بالتزامات أخرى مثل العمل، والأسرة، فيجد صعوبة في الحضور للموعظة؛ لهذا من اللازم في عصرنا اعتماد وسائل معاصرة مثل الصحف، والقنوات الإعلامية العامة والخاصة، وتسجيل دروس مختصرة ونشرها عبر مواقع الكترونية ذات إقبال اجتماعي، قصد تعميم الخطاب الدعوي بشكل أفضل، وهذا من مقتضيات قوله تعالى: أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة (النحل: 125). فالحكمة تفرض أن يساير الداعية تطورات عصره ويوظفها لصالح الدعوة الإسلامية، وفي هذا رفق بالناس بحيث يمكنهم الاستماع إلى الموعظة الحسنة في بيوتهم، وأثناء عملهم. ويستفاد هذا المعنى من عموم قوله في الرفق: «… وما لا يعطي على ما سواه» فتطبيق مبدأ الرفق في تعدد وسائل الدعوة، يمكن من تبليغ الدعوة إلى شريحة اجتماعية كبيرة من المسلمين، ويساعد في تعميم الخطاب الدعوي.
3 – الرفق بالمخالف وإقناعه بالحجة:
يجب على الداعية أن يستمع لرأي مخالفه، ويتابع أفكاره، ويطلع على أحواله وأخباره لمعرفة أهدافه التي يريد بواسطتها النيل من الإسلام، وبذلك يستطيع الداعية مواجهته بالحجة والدليل، وبالقول الحسن اللين، قال تعالى: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (طه: 44). فدحض مزاعم الخصم وتفنيدها لا يكون بالعنف بل بالحوار البناء الهادف، لقوله: «يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» فالعنف يولد العنف وينشر الفتنة.
ثم إن قصد الداعية ليس مغالبة الخصم والانتصار عليه، بل هدفه هو جلبه إلى دائرة الإسلام، وتخليصه من براثن الشيطان، أما قمعه، وتجريحه، وتكفيره فلن يجر إلا إلى مزيد من الحقد والكراهية، وتبني مبدأ التكبر والجحود، فعن أَبي هريرة قَالَ: “بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي : «دعوه وأريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنُوبًا من ماء؛ إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» (صحيح البخاري)
4 ــ التركيز على مواطن الاتفاق:
كثيرا ما نجد بعض الدعاة يركز على ما هو مختلف في حكمه فقهيا، ويستغرق وقتا طويلا لتأييد رأي فقهي معين، ويستعمل في ذلك أحيانا ألفاظا تجرح المخالف وتنقص من شأنه، ولا يخرج الداعية من ذلك بفائدة تربوية إلا نشر التفرقة بين الناس، وتأجيج نار الخلاف، فتجد نتيجة ذلك أن عوام الناس يشتمون عالما أو واعظا؛ لكونهم سمعوا من داعية آخر يشتمه أو يجرحه، فيتحول المجتمع إلى حلبة للصراع بين أتباع هذا الداعية وذاك، وكل ذلك سببه سوء تقدير الداعية لموضوع الدعوة، قال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (آل عمران: 103).
وهو بذلك لم يرفق بنفسه ولا بمستمعيه حيث أدخلهم في نزاع لا ينبني عليه عمل. وقد قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ من شيءٍ إلا شانَهُ» (صحيح مسلم).
5 – حسن البيان:
من رفق الداعية مخاطبة الفئة المستهدفة بقدر عقولهم، واستعمال اللغة التي يفهمها الجميع؛ لأن قوة الحجة تكون في القدرة على البيان، ولا عيب في استعمال اللهجة المحلية -أحيانا وعلى قدر الضرورة- لما تحمله من معاني يكون لها تأثير عجيب في نفوس المستمعين، بالإضافة إلى تكرار الآيات والأحاديث بصوت مرتفع وبطيء؛ كي يستطيع المستمع أن يستوعب فيعمل، ويحفظ فيتذكر، وكان النبي: «يحدث حديثا لو عَدَّه العَادُّ لأحصاه» (صحيح البخاري). وهذا من رفقه بالمسلمين، وقال: «إنَّ الله يحب الرفقَ في الأمرِ كله» (صحيح البخاري).
ذ.محمد البخاري