وكما رأينا عند محمود إسماعيل، الذي أصاب بعض ما عند شعراء عصره من مظاهر فنية، ثم انفتح على رياح التجديد، كذلك نجد عند عبد الله كنون، الذي هو مجايل له، انفتاحا على الأشكال الشعرية التي عرفها الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين. فإذا كان التجديد قد بدأ بالخروج على وحدة القافية، انطلاقا مما عرفه شعرنا القديم من ألوان شتى، كالموشح، والبند، والدو بيت، وغير ذلك، فإن الشعراء انطلقوا إلى ألوان أخرى، وعرفوا تلوين القوافي، كما عرفوا تقسيم القصيدة إلى مقاطع. وهذا هو ما اختاره عبد الله كنون لقصيدته، في إطار دعوته التجديدية. فهو إذا كان يدعو إلى الثورة على الجمود، وإلى تجديد الفكر، من أجل تجديد حياة المسلمين، والقضاء على كل مظاهر التخلف، فإنه لا يمكن أن تبقى القوالب الشعرية -عنده- محصورة في إطار القصيدة العربية، الموحدة الأوزان والقوافي، حتى وإن كانت -كما هو شأن القصيدة العربية منذ نشأتها- متعددة الأغراض والموضوعات.
وهكذا اختار الشاعر أن يبني قصيدته على مقاطع، كل مقطع يتكون من بيتين، والبيتان يلتزم الشاعر في أشطارهما الأربعة قافية واحدة. إلا أنه ينهي كل مقطع بشطر خامس، يمثل اللازمة، كما هو بيّن من المقطع الذي أوردناه آنفا. فقد اختار الشاعر لقافيته روي النون المكسورة، المصحوب بالوصل والخَروج. ثم تأتي اللازمة ممثلة في شطر رويه الدال:
يا بني الإسلام ما هذا الجمود؟
وأن يختار الشاعر هذا الشطر لازمةً، معناه إرادة الشاعر ترسيخ دلالته في النفوس، فاللازمة في الشعر لا يكون غرضها إلا هذا. والشاعر لا يريد أولا وآخرا غير الدعوة إلى التجديد، ومحاربة الجمود. وهذا الغرض هو من أصول الرسالة الحضارية التي حملها زعماء الإصلاح في المشرق والمغرب.
ثم نأتي إلى مقطع آخر، يتضمن فكرة قد تكون مثار جدل بين الناس. فعندما قام ألغى مصطفى كمال الخلافة العثمانية، وقام بحركته الإصلاحية التحديثية، كان لذلك وقع عظيم في نفوس مفكري الإسلام وشعرائه وأدبائه، في تركيا وفي خارج تركيا. وعندما اقترحوا على الشاعر محمد عاكف أصوي رحمه الله، وضع النشيد الوطني للجمهورية، رفض، لأنه كان من أنصار الخلافة. إلا أن أصدقائه ألحوا عليه في وضع النشيد، وقالوا: إنك إن فعلت، ضمّنته من قيم الأمة ما شئت، فأما إن تركت الأمر لغيرك فإنه يغلب أن يختاروا لذلك شاعرا علمانيا، فيصبح الأتراك أسرى لنشيد علماني، يمجد ما لا يرغبون فيه، ولا يحبونه. فاستجاب آنذاك للنداء، بعدما تبين له وجه الحق فيه، ووضع النشيد الذي ما يزال حتى اليوم نشيد الدولة / الأمة التركية، يرفع في تركيا وفي المحافل الدولية، وهو يمجد كلمة الله تعالى.
وقد كان لحركة أتاتورك، صدى عند شعراء الإسلام، عربا وعجما، مثل إقبال وشوقي. فعند شوقي نجد قصيدتين: إحداهما تمجد مصطفى كمال، ويطلق عليه اسم الغازي، بعد الانتصارات العظيمة التي حققها لتركيا ضد دول الغرب. وقد بلغ من إعجاب شوقي بأتاتورك أن شبهه بخالد بن الوليد في فتوحاته، فقال:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدّد خالد العرب
ويقرن فتوحاته بالإسلام فيقول:
أتيت ما يشبه التقوى وإن خلقتْ
سيوف قومِــــــك لا ترتــــاح للقربِ
ولا أزيدك بالإسلام معرفـــةً
كلّ المـروءة في الإسلام والحسبِ
إلا أن أتاتورك ما لبث، بعد انتصاره، أن ألغى الخلافة وأعلن قيام الجمهورية. وعندها فجع المسلمون بهذا الحادث الجلل، وندب شوقي سقوط الخلافة، فقال:
عادت أغاني العرس رجع نـواحِ
ونُعيتِ بين معالم الأفراحِ
كُــفِّـنتِ في ليل الزفـاف بثوبـه
ودُفنتِ عند تبلّج الإصبـاحِ
ويقطع شوقي الطريق على من يريد أن يلومه على هذين الموقفين المتناقضين، مبينا أن الحقّ يجب أن يُـــــتّـــبعَ، وأنّ الرّجالَ يعرفون بالحقّ، وليس الحقّ يُعرف بالرّجال، فيقول:
أستغفر الأخْـلاق، لست بجـاحدٍ
من كنتُ أدفَــعُ دونــــــه وألاحي
مالي أطوّقُــه المــلام وطـالمـا
قلّـدتُـه المـأثور من أمـداحي
أأقول من أحيا الجماعَـة مُـلْحدٌ
وأقــول من ردّ الحقوق إبـاحي؟
الحقّ أولى من وليـك حُرمَـة
وأحقّ منــك بنصْـرة وكِــفــاحِ
فامْـدَحْ على الحـقِّ الرّجـالَ ولُمــْهمُ
أو خـلّ عنك مواقفَ النُّــصَــاحِ
فماذا كان موقف عبد الله كنون رحمه الله؟
لقد رأى أن مصطفى كمال له وعليه، وهو الموقف الذي وقفه عدد من زعماء الإصلاح، الذين يقيسون الأمور، بمنأى عن التطرف يمينا أو شمالا.فقد قال، في قصيدته التي نحن بصددها، وهو يستنهض همم أبناء الأمة الإسلامية:
ما لهمْ لم يفعلـوا فعْـل (كمـالْ)
فيفوزوا بالرضى من ذي الجـلالْ
أتراضوا أن يُداسوا بالنّعالْ
أتراضوا من عداتي بالنّكالْ
يا بني الإسلام ما هذا الجمـــــــــود؟
ولأنه يَخشى أن تفهم دعوته على غير وجهها، وضع هامشا يقول: (الشاعر لا يعني من فعل مصطفى كمال إلا ثورته التي انتهت بتحرير الأمة، وما عدا ذلك فهو غير مراد).
د. الحسن الأمراني