أقول –مستعينا بالله ومتوكلا عليه- في مقدمة هذه الكلمة:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات (آل عمران: 96-97).
وإن أول مؤسسة معمارية أنشأها النبي بعد دخوله المدينة المشرفة هي مسجده الذي يتوسط بيوت المسلمين (1).
وإن من أوامره الصادرة إلى المسلمين أن تبنى المساجد، وتنظف، وتطيب”(2).
وإن من الشروط الواجب مراعاتها عند إنشاء المصر بناء جامع في وسطه ليقرب من جميع أهله (3).
وإن مركزية المسجد هي أساس النظرية الدعوية والتخطيطية أيضا، وهي أشبه بمركزية القلب داخل جسد المسلم لكونه جماع أحواله، قال رسول الله … «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (4).
وإن اتخاذ المساجد يعد واجبا شرعيا إذ فيها تقام صلاة الجماعة –الفرض العين- “وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، وبه أفتى العلماء المسلمون قديما وحديثا، قال ابن عرفة رحمه الله تعالى: “حكم بناء مسجد الجماعة والجمعة كفعلهما”(5).
وإن هذا الوجوب تقتضيه طبيعة المسجد ورسالته.
ولم تكن رسالة المسجد مقصورة على الصلاة والذكر فقط، بل كانت أوسع من ذلك، كان المسجد أول مدرسة في الإسلام يعلم الرسول فيها أصحابه، ويعلم الجاهل، ويفتى السائل، ويبين الأحكام، ويشرح أصول الإسلام، كما في حديث عمر بن الخطاب : “بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد…” الحديث. وقد تعلم المسلمون فيه ما ينفعهم من أمور دينهم، وبذلك ارتبطت حياة المسلمين به، فصار المسجد معبدهم الذي يتبتلون فيه، ومدرستهم التي يتعلمون فيها، وناديهم الذي يلقون فيه إخوانهم، فقلوبهم تعلقت به، ونفوسهم زكت فيه، والأنس وجدوه في رحابه، وخلوتهم بربهم فيه…فسمت نفوسهم وأرواحهم فسخروا دنياهم لخدمة دينهم”(6).
وقد ظل العلماء -باعتبارهم ورثة الأنبياء، لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر (7)- يوزعون هذا الميراث في المسجد، فهذا أبو هريرة مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة، قال: ذاك ميراث رسول الله يقسم ههنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا وأين هو؟ قال في المسجد. فخرجوا سراعا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا فدخلنا فلم نر فيه شيئا يقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرأون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد “(8).
وكان المسجد مكانا للشورى تعرض فيه شؤون الأمة، ويقع التشاور فيها على هدى من الوحي.
وكان دارا للقضاء تعرض فيه الدعاوى، ويقضى فيه للخصوم بالعدل.
وكان مأوى الغرباء والضعفاء والضيوف… يجد فيه الكل طلبته وحاجته: طعاما وشرابا ومأوى…
وكان مقرا للحاكم يلتقي فيه الوفود… وتعقد فيه الألوية… وكان … وكان…
هذه إذن هي رسالة المسجد في عمومها وشمولها، لا تدع شأنا من شؤون الدين إلا أحصته، ولا أمرا من أمور الدنيا إلا بينته.
وإذا كان الأمر كذلك فهل أسهم المسجد في تحصين المسلم في المجتمع غير المسلم وفي ترشيد اندماجه فيه؟
هذا هو جوهر هذه الكلمة المتواضعة، بإذن الله .
د. زكرياء المرابط
—————-
1 – ينظر سيرة ابن هشام.
2 – صحيح سنن أبي داود، كتاب الصلاة باب اتخاذ المساجد في الدور (رقم الحديث 480) 2/254.
3 – كتاب تسهيل النظر وتعجيل الظفر، ص: 163، وسلوك الملك في تدبير الممالك، ص: 192.
4 – متفق عليه
5 – المعيار المغرب، 1/140.
6 – الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه، ص: 15، وينظر المسجد النبوي عبر التاريخ، ص: 11 ومن روائع حضارتنا، ص: 100
7 – صحيح الجامع الصغير 6297.
8 – الترغيب والترهيب 1/58 وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 83.
يتبع