الخطبة الأولى:
عباد الله: ما أعظم الله.. ما أرحم الله.. ما أحلم الله.. فهو سبحانه الغني، ومع غناه عنا فإنه يأمرنا بدعائه ليستجيب لنا، ويرغبنا في سؤاله ليعطينا، ويدعونا لاستغفاره ليغفر لنا، ونحن مع فقرنا وعجزنا وضعفنا وحاجتنا إليه نعصيه ونعرض عنه، مع علمنا أن معصيته تسبّب غضبه علينا وعقوبته لنا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (فاطر: 15-17) وقال سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون (البقرة:186).
لقدتأخرُ نزولِ الغيث من السماء، حتى أصبح حديث الكبير والصغير والغني والفقير، والتاجر والصانع… كل الناس يشتكون وإلى الله المشتكى، يشتكون في المدن والقرى والجبال والسهول..، يشتكون قلة الماء بعد كثرته، وانعدامه بعد وجوده، ويشكون جدب الأرض بعد أن كانت خضراء تسر الناظرين، يشكون قلة الماء لأنه مصدر الحياة وهو نعمة من أعظم النعم وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يومنون .
عباد الله: هذه هي الشكوى قد ارتفعت وهذه هي الأصوات قد بحت، وهذا هو الافتقار قد تبدى في أجلى صوره، وهذه قضيتنا قد عرضت على مالك الملك والملكوت، وصاحب الأمر والنهي، فبأي حجة سنعرض حاجتنا وبأي دفاع سنعزز مطالبنا، إننا أمام من لا يظلم عنده أحد، قال عز من قائل: وما ربك بظلام للعبيد وقال في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي…»
عباد الله: ما سبب تأخر الغيث؟ ما سبب القحطِ والجدبِ؟ ما سبب كساد التجارة؟..
لا عقوبة إلا بذنب، وما انقطاع القطر من السماء إلا بسبب ذنوبنا، فمن أسباب تأخره أو انقطاعه؛ أكل حقوق العباد وحرمان أهلها منها، ومن ذلك؛ نقصُ المكيال والميزان في البيوع والمعاملات، الذي ينتج عنه القحطُ وقلَّةُ النبات، وصعوبةُ الحصول على الطعام، وظلمُ الحكام والحكومات، والبخلُ بحق الفقراء في الصدقات والزكوات؛ كل هذا يسبب منع نزول الأمطار من السماء، وتخلو الأرض من البركات؛ لولا رحمة الرحمن الرحيم بالبهائم والحشرات وجميع المخلوقات، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: إِذَا رَأَيْت الْقَطْرَ قَدْ مُنِعَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فَمَنَعَ اللَّهُ مَا عِنْدَهُ، وَإِذَا رَأَيْت السُّيُوفَ قَدْ عَرِيَتْ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ اللهِ قَدْ ضُيِّعَ فَانْتَقَمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا رَأَيْت الزِّنَا قَدْ فَشَا فَاعْلَمْ، أَنَّ الرِّبَا قَدْ فَشَا . شعب الإيمان (3/ 196) (3313)
ويفسر مجاهد (اللاعنون) في قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال: (دوابُّ الأرضِ؛ الخنافسُ والعقاربُ يقولون: مُنِعْنا القَطرَ بخطايا بني آدم). شعب الإيمان (3/ 198) (3317)
عن عبد الله بن عمر قال: كنت عاشر عشرة رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله ، فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهنّ: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابْتُلُوا بالطواعين والأوجاع -أي: الأمراض- التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ إلا ابتلوا بالسنين وشدة المَؤُونة وجَوْر السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم».
عباد الله: لقد تأخر الغيثُ وتقلَّص الغيمُ والسحاب في السماء، وما ذاك إلاَّ بسبب ذنوب اقترفناها وسيئات عملناها، قال سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (الأنعام: 6).
وعن جعفر –جعفر بن سليمان الضبعي أبو سليمان البصرى- قال: كنا نكون عند مالك يعني ابن دينار وكانت الغيوم تجيء وتذهب ولا تمطر، قال: فقال مالك: ترون ولا تذاقون، أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطئ الحجارة وقال: سمعت مالكا يقول: ما سقطت أمة من عين الله؛ إلا ضرب الله أكابرها الجوع . شعب الإيمان (3/ 198) (3316)
وكان الحسن إذا رأى السحاب قال: في هذا والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه بخطاياكم وذنوبكم .(المطر والرعد والبرق لابن أبي الدنيا) (1/ 59) (57)
وحتى يأذن الله تعالى للغيثِ وبالنزولِ لا بدَّ من توبة نصوح وعودة صادقة إلى اللهِ الغني الحميد.
إن هذا الحديث الذي ذكرنا يبين ما تؤول إليه أحوال المذنبين من العقوبات العاجلة التي تذكّرهم بالله رب العالمين حتى يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا على أمر الله، على خلاف الأمم السابقة التي أهلكها ودمرها، فهو سبحانه يبتلي العصاة من المسلمين ولكنه يذكرنا بين الفينة والأخرى، قال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم: 41)، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (فاطر: 45).
ومن خلال هذا الحديث كذلك نستنبط أن ما يمنع القطر من السماء، ومايسبب الجدب والقحط في الأرض، أمرين خطيرين وذنبين عظيمين:
الأول: التطفيف؛ “لم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين..”، والأخذ بالسنين أحد أنواع البلاء والعذاب، كما حكى القرآن الكريم عن عذاب آل فرعون في الدنيا: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون .
ونقص المكيال والميزان هو التطفيف، فإن كان الأمر له استوفى حقه بالكامل، وإن كان الأمر لغيره نقص له في الميزان وبخسه حقه، وهذا من أسباب شدة المؤنة، قال : «إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجَوْر السلطان»، وإذا كان النبي قد حصر من خلال الحديث الكلام في نقص المكيال والميزان فإن الأمر يتعدى إلى ما يحصل في أيامنا من سرقة أموال الناس، وتزوير واختلاس، وغش في المعاملات..،
الثاني: منع الزكاة؛ قال : «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء».. هذه جريمة عظيمة ومنكر كبار يكون سببافي تأخر نزول الرحمة والغيث من السماء، لأن الناس في زماننا يكنزون الأموال ولا يخرجون حق الله فيها، وإن أخرجوا، أخرجوا دون ما أمر الله به.
أيها المؤمنون: لم هذا البخل؟ لم هذا الكنز والاحتكار للأموال والسلع والبضائع؟ أما سمعنا قول ربنا الرزاق المنان: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .
عذاب وأي عذاب في جهنم وما أدراك ما جهنم، يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .
ولنتأمل أيها الأحبة خاتمة المقطع من هذا الحديث:
قال : «ولولا البهائم لم يُمَطروا»، ويل لمن قرأ هذا الحديث ولم يتأمل هذه العبارة «ولولا البهائم لم يُمَطروا»، بمعنى أنه ولو نزل الغيث، فإنه بسبب البهائم، ولولا البهائم لم ينزل الله تعالى غيثه ورحمته، فالغيث ليس للعصاة والمذنبين المصرين على معاصيهم، الذين يبارزون الله تعالى بها وإنما ينزل الغيث رحمة بالبهائم العجماوات. وفي كثير من الأحيان تموت البهائم بسبب معاصي المذنبين.
قال مجاهد: “إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنون تقول: من شؤم معصية بني آدم “.
وكان أبو هريرة عنه يقول: “إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم”.
اللهم إنا نعوذ من الظلم ونسألك يا ربنا أن ترزقنا توبة نصوحا نرجع بها إلى رحابك ونستمطر بها رحمتك وغيثك. والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
عباد الله.. إن تأخر نزول الأمطار ليس مجرد رياحٍ تأتي من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب أثرت عليه فلم ينزل، وليست بسبب الانحباس الحراري أو ثقب في الغلاف الجوي أو تغيرٍ في الأحوال المناخية، ولكن السبب الحقيقي لتأخر الأمطار يكمن وراء هذه الأسباب التي ذكرها الرسول ، وإذا ما أقلعنا عن هذه المعاصي واستغفرنا الله بقلوب صادقة، رجونا بصدق رحمة الله ونزول الغيث، كما قال سبحانه وتعالى على لسان نوح : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا ما لكم لا ترجون لله وقارًا .
وقال تعالى على لسان هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ، يا قوم استغفروا الله وتوبوا إليه من المعاصي كلها، من الشرك والبدع وما يتعلق بهما ومن أكل الربا والسحت، فليس الاستغفار باللسان، وإنما الاستغفار قولا وفعلا، توبوا إليه، أقلعوا عن المعصية، ومع الإقلاع استغفروا الله ، عندها يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم، وإن لم نفعل فسيبقى الحال على ما هو عليه.. ولاننتظر إن لم نقلع عن معاصينا ونستغفر ربنا أن ينزل علينا غيثه بمجرد خروجنا لصلاة الاستسقاء، وقولنا: اللهم أغثنا.
عباد الله! “إننا شكونا جدب مزارعنا وتأخرالغيث عن موسم فلاحتنا وقد أمرنا الله سبحانه بالدعاء ووعدنا بالاستجابة..
لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين.
اللهم أغثنا اللهم أغثنا.
اللهمَّ اغْفِرْ لنا ذَنوبنا، وَبَارِكْ لنا فِي أرزاقنا،
اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا،
اللهم سقيا رحمة ولا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
ذ. عبد الحميد الرازي