إذا كان القدماء يقولون: «لولا عياض لما ذكر المغرب»، فإنه يصحّ، قياساً على ذلك، أن نقول: «لولا عبد الله كنون لما عرف المشارقة أدب المغرب».
وقد تجاوز حضور عبد الله كنون العلمي العالم العربي إلى أقصى شرق العالم الإسلامي، وإلى الغرب، حيث اختير عضوا في عدد من المجامع والمؤسسات العلمية. وفي المؤتمر التأسيسي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالهند، مطلع عام 1986، كان اسم عبد الله كنون حاضرا، أثناء اقتراح تكوين مجلس أمناء الرابطة. وقد أثنى عليه الشيخ أبو الحسن الندوي، رحمه الله، ثناء جميلا. وقد أعطي العضوية الشرفية، فكان ذلك دعما للرابطة أكثر مما كان تشريفا له رحمه الله تعالى.
وقد عرف كنون بمواقفه الثابتة في الحق، لا يداري ولا يداهن. برز ذلك جليا يوم تولى عددا من المناصب الرسمية، منذ كان وزيرا في المنطقة الخليفية، إلى أن صار عاملا على طنجة، ومواقفه الوطنية والدينية أثناء كل ذلك معلومة ومشهودة. وفي مؤتمر رابطة علماء المغرب الذي عقد في وجدة، عقب الثورة الإيرانية، كانت كلمته قوية، صادعة بالحق. وعندما أراد بعضهم الدفاع عن المذهب الاشتراكي، مستندا إلى قوله تعالى: كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم ، كان رده حاسما، فقال: «هذه آية في الفيء، ولا يجوز الاستشهاد بها في هذا المقام».
وكان رحمه الله تعالى يسير في حياته سيرة العلماء الربانيين، من التواضع ولين الجانب من جهة، والحزم والصدع بالحق في مواطن الحق من جهة أخرى. وعندما زرته، قبيل وفاته رحمه الله تعالى، وجدته في غرفة صغيرة وأنيقة، وحيدا، بين يديه الورق والقلم، وهو يدون ما يُدَوّن. وقلت له: أنا فلان، فرحب أيما ترحيب، وقدّم لنا القِرى، أنا ومرافقي، وراح يحدّثنا. ولما رآني وكأنني أتعجب من انكبابه على الكتابة، وهو في تلك المرحلة من العمر، قال لي: أنا آخر واحد من جيلي، ما يزال يكتب. الرسالة الآن رسالتكم، فأنتم يجب عليكم أن تنهضوا بها، وتكتبوا للناس.
مؤلفات عبد الله كنون متعددة، في الأدب والشعر، وفي الفكر والإصلاح، وفي الشريعة والواقع. وكتابه: «النبوغ المغربي في الأدب العربي» حجة في بابه، وقد أثنى عليه الدكتور طه حسين ثناء جميلا، وهو المعروف بأنه قلما يرضيه شيء.
وله كتاب أدبي ثمين، قلما يذكره الناس، وهو كتاب: «أحاديث في الأدب المغربي الحديث»، وينبئك الكتاب بأن المؤلف مطلع على الأدب المغربي الحديث، على قدر اطلاعه على القديم من ذلك الأدب.
وهذه الساعة التي نريد أن نقفها مع عبد الله كنون، نجعلها لشعره، أو ـ إذا شئت ـ لبعض شعره، الوارد في ديوانه: (لوحات شعرية).
في هذا الديوان قصيدة عنوانها: «هل أنا أديب؟»، وهي تدل على شدة عناية كنون بالأدباء الشباب، وتشجيعهم، ولكن بتوجيههم إلى الصراط اللاحب، والطريق المستقيم. وقد يبدو في عباراته بعض القسوة عليهم، إلا أنّها قسوة الأب على أبنائه، لأنه يريد أن يشد من أزرهم، وأن يقوّمهم، ويثقّف نتاجهم، وينقّيه مما به من العطب.
يقول:
نجوم على أفق المغرب
تمثّل نـاشئة الأدب
ولكنّها خابياتُ الضيا
يطـوف بها غيْهبُ الحجب
تغنّت بشعر صحيح القوافي
وأوضاعه جمّة العطبِ
وأجرى اليراعة كاتبُها
فيا ليتَه قطُّ لم يكتب
وإذا كانت النبرة قاسية، كما ألمحنا، فيكفي أنه جعل أولئك الأدباء الشباب نجوما، ولئن كانت الآن خابيات الضياء، فأحرِ بمن اجتهد وكابد أن يستضيء، وشيكا، بنوره السالكون.
ويبّينُ كنون شروط الكتابة الشعرية فيقول:
وليسَ الكتابةُ صوغَ الكلام
بدون اختيارٍ ولا مذهبِ
ولكنّها ما يثيرُ الشعور
وينشُر مؤودةَ الحسبِ
فكأنّ عبد الله كنون يعيد منهج أسلافه من الشعراء في توجيه الأدباء والشعراء إلى مفهوم الشعر، ولكلّ مذهبه. فقد قال أبو تمّام:
خذها ابنة الفكر المهذّب في الدجى
والليل أسود حالك الجلباب
فجعل الفكر مدار القول.
وقال البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم
والشعر يغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بالـــمنطق ما نوعه وما سببه، فهاجم استعمال المنطق الذي ذاد عنه أبو تمّام، وانتصر لمقولة: «أعذب الشعر وأكذبه».
وقال أحمد شوقي من المحدثين:
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة فهو تقطيعٌ وأوزانُ
وكم من شعر لا يعدو أن يكون تقطيعا وأوزانا، وهذا هو الذي حذر منه عبد الله كنون الشعراء الشباب، فليست القدرة على صوغ القوافي، صحيحة سليمة من العيوب، كافية وحدها لصناعة شاعر، ما دامت معانيه وأوضاعه جمّة العطب، إذ ليس الشعر حلية، بقدر ما هو رسالة جليلة. ثم إن الشعر، ما لم يثر الشعور، ليس حريا بأن يضم إلى مملكة الشعر. ولذلك ندّت عن الشاعر تلك الحسرة الملتهبة التي تقول: «فيا ليته قطّ لم يكتب»، إذ هو بذلك يعفي نفسه مما لا يقدر عليه، فضلا عن أن يحسنه، ويعفي غيره من مضيعة لوقت هو أجدر في أن يقضيه فيما ينفع به نفسه، وينفع أمته، وينفع النّاس جميعا.
د. الحسن الأمراني