الـمُـجـاهَــرَةُ بالـمـعـصـيـة : مـآلاتُ التَّـطـبـيـع


من سمات هذا العصر الإصرارُ على المعصية، وأخطرُ من ذلك الإمعانُ في إظهارها والإعلان عنها. والشارع الحكيم يقدِّر أن الإنسان مهما أطاع ربَّه، وامتثل أمره ونهيه، فإنه يقع- من حيث القصدُ أو غيرُه-في المخالفة الشرعية، التي تُسمّى في الشريعة بالمعصية. والمعصيةُ سِمَةٌ ملازمة للإنسان منذ خلق آدم وذريته الأولى، قال تعالى : وعصى آدمُ ربَّه فَغَوى ثم اجْتَباهُ ربُّهُ فَتابَ عليه وهَدَى (طه : 121 – 122)، ويقول النبي : «كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون»(الترمذي2499 وابن ماجة 4251 والحاكم وقال صحيح الإسناد). وإذا كان الشارع يعترف للإنسان بالضعف حين المعصية، فإنه لم يشرَع له المجاهرة بها، بل أمره بإخفاء المعصية وسترها، وكتمانِها عن الغير وكتمانها، ليس مُراءاةً للناس، ولا طلباً لمدحِهم، و لا ظهوراً بمظهر التائب منها، وإنما الداعي إلى كتمان المعصية، ما يلي :
1 – أسباب شرعية:
أ – كتمان المعصية مدعاة لاستتار صاحبها، وقدجاء في الحديث الذي رواه الإمام مالك في موطئه عن زيد بن أسْلَمَ أن النبي قال: «يا أيها الناس،قد آنَ لكم أن تنتَهُوا عن حدود الله،مَنْ أصاب من هذه القاذُورَةِ شيئا فليستتر بسِتر الله ، فإنه من يُبْدِي لنا صفحتَه، نُقِمْ عليه كتاب الله» (ح2478 )، أي من يُجاهرُ بالمعصية وجبَ عليه إقامةُ الحَدّ.
ب- الخشية من الفضيحة وظهور أمر العاصي للناس، فيخبو وقعُ المعصية فيقلبه، فيسترسل فيها دون مبالاة، فإذا هالَهُ الخوفُ من افتضاح أمره بين الناس، دعاه ذلك إلى الخوف من الافتضاح في الآخرة. إنّ العاصيَ إذ لم تكن له حساسيةٌ مُفرطة من المعصية، امتلك بذلك جرأة كبيرة، وكم من الناس بدؤوا بمعاصٍ صغيرة، ولكنْ مع ضعف الحساسية من الفعل، أصبحوا يرتكبون الكبائر، والسببُ: ضعفُ المناعة نحو المعصية، وكيف يكون حالُ الجسد إذا فقد مناعته؟ المصير هو الموت، وأخطرُ منه حين يموت القلب النابض بالحياة، حين يفقدُ مناعة المعصية، أو من كان ميِّتاً فأحيَيْناهُ وجَعلْنا لهُ نورًا يمشي به في الناس كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلمات ليس بخارجٍ منها (الأنعام 122). إنها ظلُمات المعصية، فهل يخشى العاصي من هتك ستره في الدنيا والآخرة؟ ولهذا كان من الدعاء الصالح: «اللهمّ استُرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العَرْض.
جـ- إخفاء المعصية حتى لا يصبح مرتكبُها قدوةً للناس، فيكون سببا في انتشار المعاصي، بمعنى أن العاصي إذا قُدِّر عليه أن يغرَق في المعصية، فلا يكُنْ سببا في غرق الآخرين من الأبناء، والأصحاب، والأقارب، لأن هؤلاء سيقلّدون العاصي في الخير أو في الشر، فلا يلومنّ أحدٌ أبناءه إذا وجد أحدَهُم على معصية.
د- وازع الحياء: إن العاصيَ مهما ضعفت نفسه، وخارت عزيمته، واستجاب لوسوسة شيطانه، فإن ذرّة الحياء الباقية تمنعه من إظهار المعصية، وقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان» (مسلم ح35). إن إخفاء المعصية يجنب العاصيَ ذم الناس له بما فيه وبغير ما فيه، من السب والشتم والغيبة وغيرها .
هـ- إخفاء المعصية أمَلٌ في عفو الله، حتى لا يدخل في زمرة المتفاخرين بالمعصية ، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: «كلُّ أمتي معافىً إلا المجاهرين، وإنَّ المُجاهرةَ أن يعمل الرجلُ عملا بالليل، فيقول : يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستُره ربُّه، ويصبحُ يكْشِف سِترَ الله عنه» (البخاري 5721- مسلم2990) وفي المجتمع عيّناتٌ من هذا الصنف، يسترها الله، وتأبى إلا أن تكشف سِر الله عليه، فهل :المجاهرة بالمعصية بطولة ؟ أبدا، البطولة أن يهجُر الإنسانُ المعصية، البطولةُ أن يَوْجُلَ القلب- حين يتذكر معصيته- فرَقاً وخوفا من عِظم من عُصِي،البطولةُ أن يحرص العاصي أن لا يراه الناس على معصية،» كلُّ أمتي معافىً إلا المجاهرين» و»إلا» بمعنى «لكنْ» أي لكنِ المجاهرون لا يُعافوْن .
2 – المجاهرة تعريفا ودلالة :
في لسان العرب: «جاهرَهُم بالأمر مُجاهَرَةً وجِهارًا: عَـالَـنَهم»، أما شرعا، فهي ارتكابُ الشخص المعصيةَ علانيةً،أو ارتكابُها سرّاً وقد ستره الله، ولكنه يخبر بها بعد ذلك مستهينا بستر الله له، وهذا ممّا ورد النهي عنه بقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللهُ الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم (النساء148). قال القرطبي:» لا يحبّ الله أن يجهر أحدٌ بالسوء من القول، أو من الفعل إلا من ظُلم فلا يُكرَه له الجهرُ به» (الجامع لأحكام القرآن 7/199)، وقال ابن حجر في تعريف المُجاهِر : «هو الذي أظهر معصيتَه، وكشَفَ ما ستَر اللهُ عليه، فيُحدّث بها.» (فتح الباري 10/487). وعلى هذا الأساس فإن المجاهرة بالمعاصي ثلاث مراتب:
أ- إظهار المعصية، وهذه حالُ بعض العصاة الذي يستهترون بحدود الله تعالى، فيقترفون المعصية جِهارا،فإذا نهيْتَه ودعوْتَه إلى اتقاء الله، كان الجواب استهتارا وإنكارا وتفكُّها، لكنه يحتاط من الناس،استخفاء منه، وقد عاب الله تعالى هذا الصنيع بقوله تعالى: يستخفُون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يُبيّـتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (النساء : 108). هذه معادلة ربانية،فإذا اختلّت لدى الإنسان هذه المعادلةُ، معادلةُ الخوف من الناس دون الله تعالى، فالواجب نقدُ الذات ومراجعة الاقتناع.
ب-إظهار المعصية،مع التحدُّث بها تفاخراواستهتارا: وهؤلاء محرومون من معافاة الله بنص الحديث «كل أمتي معافىً إلا المجاهرين».
جـ- التنافس في المجاهرة بالمعاصي: وهذا شأن الذين يتنافسون في التحدّث بعدد المعاصي، وما عمَّت المعاصي وذاعت وجُهِر بها، إلا بفعل السكوت عليها، حتى أصبحت المعاصي شيئا مألوفا عند بعض الناس، بل ويكاد التطبيع معها يكون «مبَرَّرا» ومن ثم وجب التعاطي مع المجاهرة بالمعاصي بالإنكار،والزجر والعقاب من طرف الجهات المختصة بذلك، ولو بأدنى درجات الإنكار باللسان، وهجْر المجاهرين بالمعصية بعد واجب النصح، وقد أجاز العلماء ترك تشييع جنازة المجاهر بفسقه لأن»الجهر بالمعصية استخفافٌ بحق الله ورسوله وبصالحي الأمة، وفيه ضربٌ من العناد لهم، وفي إخفائها السلامةُ من الاستخفاف» كما يقول ابن بطال المالكي. (ينظر: فتح الباري10/478)
3 – المجاهرة بالمعصية والسلوك الجماعي:
فقد تكون سلوكا فرديا ، وقد تتعداه لتغدو عملا جماعياأو مؤَسَّسيا،وقد يتواطأ الناس جماعات وهيئات على المجاهرة بها، وهو المعنى من قوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبتْ أيدي الناس ليذيقَهم بعضَ الذي عمِلوا لعلهم يرجعون (الروم : 40). والمتأمل في واقع بعض الناس اليوم،يلحظ هذا الإصرار على المجاهرة بالمعاصي، وإظهار الموبقات، مع حاجة العصاة إلى ربهم، وافتقارهم إلى رحمته. وهل يعلم المجاهرون سوء صنيعهم على البلاد والعباد والدوابّ؟ وهل يدرك المجاهرون العقوباتِ الدنيويةَ التي رتبّها الشارع على المجاهرة بالمعصية- ناهيك عن عقوبات الآخرة – ونحن- اليوم – في أشد الحاجة إلى الغيث النافع ، بعدما جفّت الأرض، وشحّت السماء، وظل الناس يُهرَعون إلى طلب الغيث، لكن ساعة الإجابة لم تَحِنْ بعدُ ،مع أن النبي حذّر أمته من عواقب جملة من المعاصي، وآثارها الوخيمة، ومنها المجاهرة بالمعصية والإعلان عنها، في الحديث الذي رواه ابن ماجة وصححه الألباني عن ابن عمر ، قال: أقبل علينا رسول الله ϕ فقال: «يا معشر المهاجرين: خمسٌ إذا ابتليتم بهنّ- وأعوذ بالله أن تُدركوهن – ، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ، حتى يُعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضَتْ في أسلافهم الذين مضَوْا،ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجوْر السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، ولم يَنْقُضوا عهد الله وعهدَ رسوله إلا سلَّطَ الله عليهم عدُوَّهم من غيرهم، فأَخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمّتُهم بكتاب الله ، ويتخيّروا مما أنزل اللهُ ، إلاّ جعل اللهُ بأسَهم بينهم»

ذ. كمال الدين رحموني