حينما تحدثتُ في هذا العمود من العدد الماضي عن الفرق بين ثقافة «الأنا» وبين ثقافة «الأثر»، فإن ذلك لا يعني أن ثقافة «الأثر» لا تهتم بالسابقين والأولين الذين تركوا أثرا بارزا في الذين جاؤوا من بعدهم. وكيف لا يكون ذلك وأن الله تعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فقال جل ذكره: وَالسَّابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 101)، وقال عز وجل عن الذين جاؤوا من بعدهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءامَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحشر: 10). فالسابقون من صحابة رسول الله مقدمون في الذكر والمنزلة على الذين جاؤوا من بعدهم، وهؤلاء مأمورون بالاستغفار لأولئك، لسابقتهم في الإيمان والإسلام.
من هنا كان للأوائل ذَوي المنزلة الروحية ثم العلمية ذِكْرٌ حميد عند من جاء مِن بعدهم، ومن بين هذا الذِّكر إفراد مؤلفات تتحدث عنهم وعن مكانتهم وعن سابقتهم في الإيمان والعمل؛ ومن ثَم وجدنا عددا من المؤلفات تحمل هذا العنوان: «الأوائل»، منها كتاب ابن أبي عاصم الشيباني (ت 287هـ)، وكتاب أبي عروبة الحسين بن محمد الحرَّاني (ت 318هـ)، وكتاب أبي القاسم الطبراني (ت 360هـ)، وكتاب أبي هلال العسكري (ت نحو 395هـ)، وغيرها من المؤلفات التي تحمل مثل هذا العنوان أو قريبا منه،.
ومن الملاحظ أن عددا من النصوص تردد في هذه الكتب، وذلك بسبب أن الجامع المشترك بين هذه المؤلفات تركيزها على الجانب التعبدي أو التشريعي مما له دور في بناء الإنسان بناء ذاتيا محكماً، وتكوينه تكوينا حضاريا متينا، وتحصينه مما يمكن أن يلقي به في متاهات الحيرة والضلال.
وفيما يلي مقتطفات من هذه الكتب:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: يَا رَبُّ مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ».
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ ».
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ، رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ».
عن الزُّبَيْر عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ أَوَّل مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بمَكَّة بَعْدَ رَسُول الله عَبْد اللَّهِ بْنُ مَسْعُود «.
عَنْ أَبِي إِسْحَاق قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: «كَانَ أَوَّل مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَة من أَصْحَاب النَّبِي مُصْعَب بْنُ عُمَيْر ».
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «أَوَّلُ ظَعِينَةٍ قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ».
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ أَوَّل مَنْ ضَرَبَ على يَد رَسُول الله ، (يعني في بيعة العقبة الثانية) : الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ».
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ َ: «أَوَّلُ مَنْ أَضَافَ الْأَضْيَافَ إِبْرَاهِيمُ ُ».
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ».
عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ َ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ، فَإِنْ تَمَّتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ثُمَّ سَائِرُ الْأَعْمَالِ».
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (المدينة)انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إِذْ سُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلُ: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «بَلْ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ»، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ.
د. عبد الرحيم الرحموني