في مقابل هذا كلّه يجب أن نتذكر حملة القرآن المتواصلة على الظنون والأهواء…
على السحر والكهانة والخرافة والأساطير… على كل ما هو ضد المنهج في التعامل مع الظواهر والأشياء… على صيغ التحيّز التي لا تستند إلى الحجة والبرهان… قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (البقرة: 111) هذه اللازمة التي نجدها تتكرر في كتاب الله، حيث لا يتسع المجال لإيراد شواهدها… والآية التالية تختصر الأمر كلّه، فلا تتطلب مزيداً: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (النجم: 23).
حيثما تلفتنا -أيها الأخوة– وجدنا رسولنا ، هذا المعلم الكبير، لم يصرف من سيرته التي استغرقت ثلاثة وعشرين عاماً سوى سنة وثلاثة أشهر في معمعان المعارك والحروب… والزمن المتبقي بفضائه الواسع كان يبني فيه المشروع الحضاري الذي جاء هذا الدين لكي يبشّر به… ونحن في احتفالاتنا وخطب جمعنا لا نزال نطرق على معركة بدر دون أي التفات للقيم الحضارية التي تشكل الجملة العصبية لعصر الرسالة… والتي يمكن أن تقدّم الجواب لمعضلات البشرية في القرن الأخير… إن ما هو أهم من المعارك… هذا المشروع الحضاري الذي قدّر له أن يعيد صياغة العالم، وسيقدّر له أن يعيدها مرةً أخرى… وكما يقول (غارودي) في كتابه (وعود الإسلام): “إن مشكلة العالم المعاصر كونية، ولابّد للجواب أن يكون كونياً، والإسلام هو هذا الجواب”.
لقد أتيح لي وأنا أشتغل في ثمانينيات القرن الماضي على كتاب (قالوا عن الإسلام) أن أجمع مقولات المفكرين الغربيين بخصوص الإسلام عقيدةً وشريعةً وتاريخاً ونبياً وكتاباً وحضارةً وحاضراً ومستقبلاً… وبما يمكن أن يقدّمه للمشاركة في إعادة صياغة مصير العالم الذي تساقطت كل مذاهبه ودعاواه الأممية والقومية والاستعمارية والرأسمالية… على الإطلاق… فوجدت العجب العجاب… آلاف النصوص التي تكدّست بين يدي عما يريد هؤلاء أن يقولوه عن هذا الدين، وعن دوره المستقبلي في مصير العالم: سيغريد هونكه الألمانية، روم لاندو الإنكليزي، غوستاف لوبون وروجيه غارودي وموريس بوكاي الفرنسيين، لورا فيشيا فاغليري الإيطالية، ليوبولد فايس المجري، مايكل هارت الأمريكي… و… و… عشرات ومئات غيرهم ممن وردت شهادات بعضهم في كتابي المذكور…
إنه يتحتم علينا ونحن ندرّس (السيرة النبوية) لطلبتنا في الإعداديات والجامعات أن نقول لهم هذا… أن نعرضه عليهم بتفاصيله… وأن نزرع الثقة بأنفسهم وعقيدتهم ومشروعهم الحضاري… وأن المخلّص للعالم المعاصر الذي أوصلته نظمه الوضعية والشمولية إلى حالة الاختناق… والالتصاق بالأرض… هو هذا الدين الذي يلتقي فيه الوحي بالوجود… تعاليم السماء القادمة من الله سبحانه وتعالى… بالالتحام بكتلة العالم، بفيزيائه… وطاقاته من أجل التحقّق بمطالب المشروع الحضاري… وإحدى أهم هذه المطالب أن يكون نَفَسُنا طويلا… وأن تكون لدينا القدرة على الصبر والتحمل… وأن نتعلم من الغربيين أخلاقية مواصلة الكشف والابتكار والإضافة والإغناء… إذا أردنا فعلاً أن يكون لنا مكان في هذا العالم ، وأن نعطيهم مثلاً منظوراً على قدرة المسلم على مواصلة الطريق وحمل أمانة مشروعه الحضاري… وتقديمه إلى البشرية التي شردت منذ زمن بعيد عن منهج الله تعالى…
إننا إذا استطعنا أن نلتحم كرةً ثانية بالخطاب القرآني والمعطى النبوي، اللذين يعلماننا الكثير الكثير بخصوص كيف ننشئ حضارة، وكيف نمضي بها إلى الأمام، وكيف ندخل بمشروعنا الحضاري إلى العالم للمشاركة في إعادة صياغة مصيره… نكون قد بدأنا خطواتنا على الطريق الصحيح…
شكراً جزيلاً لحضوركم ولإصغائكم الجميل…
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
د. عماد الدين خليل