من وحي السيرة قصة الفيل من الحدث إلى المقصد


إن من سنن الله تعالى في الكون، أن الانفراج يكون بعد الشدة، والضياء يكون بعد الظلام، واليسر بعد العسر، ومن هنا كان من أهم الأحداث التي زامنت مولد محمد حدث قصة الفيل.
مستند هذه القصة:
قصة الفيل ثابتة بالقرآن والسنة، كما أتت تفاصيلها في كتب السير والتاريخ، وذكرتها كتب التفسير، قال الله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول (الفيل). “ومن إشارات النبي إلى الحادثة، أنه لما خرج زمن الحديبية، سار حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت بها راحلته، فقال الناس: حل، حل (1)، فألحَّت (2)، فقالوا: خلأت (3) القصواء. فقال النبي : “ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل” (4).
السرد التاريخي لحادثة الفيل:
جاء في السيرة النبوية لأبي حاتم: “أنه كان من شأن الفيل أن ملكا باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة يقال له أبرهة، بنى كنيسة بصنعاء فسماها القلَّيس، وزعم أنه يصرف إليها حج العرب، وحلف أن يسير إلى الكعبة فيهدمها، وسار في جيش له نحو مكة يقاتل كل من اعترضه في طريقه، وصحب معه أبا رغال، حتى إذا كان بالمغمس (5) مات أبو رغال وهو الذي رجم قبره.
وبعث أبرهة من المغمس رجلا يقال له: الأسود ابن مقصوم على مقدمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم بعث أبرهة حناطة الحمري إلى أهل مكة، فقال له: قل لشريفها إني لم آت لقتال؛ وإنما جئت لهدم هذا البيت، فلما ذهب قال له عبد المطلب: سنخلي بينه وبين البيت، فإن الله بينه وبينه، فوالله ما لنا به قوة، ثم سار عبد المطلب مع رسول أبرهة حتى إذا أتى أبرهة، عظمه أبرهة، وقال له عبد المطلب: أيها الملك إنك قد أصبت لي مالا عظيما، فاردده علي، فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك، قال: ولم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك فلم تكلمني فيه وتكلمني في مئتي بعير لك؟ قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فردت إليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريشا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب.
وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، فلما حرك فيله، وقف، وضربوه أشد الضرب فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان (6) مع كل طير ثلاثة أحجار، فإذا غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك، وليس كل القوم أصيب، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل أبرهة تتساقط أنامله، فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير، ثم مات”(7).
الدروس والفوائد المستخلصة من هذه القصة:
-شرف بيت الله، أول بيت وضع للناس، ومن شأن رب البيت أن يحمي بيته.
-تدافع الأمم سنة من السنن الإلهية في الاجتماع الإنسانية، وهو ما نلحظه من خلال حقد النصارى وحسدهم لما أعطيه العرب من قوة ووحدة، وهو ما دعاهم لمحاولة هدم مركز الوحدة للأمة الإسلامية.
- أن الدفاع عن المقدسات والتضحية في سبيلها، شيء غريزي في فطرة الإنسان، خصوصا إذا علمنا أن التدين ضرورة فطرية، وكل دين له مقدساته.
- بيان حقيقة المعركة بين الله جل وعلا وأعدائه، وأن الحرب على شعائر الدين ومعالمه حرب على الله جل جلاله، وأن معلن الحرب على الله تعالى ودينه باليقين مآله البوار والخسران.
- أن تعظيم الناس للبيت وأهله استصحب منذ تاريخ البيت، وأن حب البيت وأهله من الإيمان.
- أن الكعبة بيت الله تعالى لا يمكن أن تمس بسوء؛ لأن لها ربا يحميها، ورب البيت أولى بحمايته.
- جعلت الحادثة تاريخا للعرب، يقولون مثلا ولد فلان عام الفيل، وذلك لقيمتها الدينية ولدلالتها التاريخية، ولمحوريتها في سيرة الإسلام والصراع ضده.(8)
مقاصد وحكم من حادثة الفيل:
لعل من المقاصد العظيمة لقصة أصحاب الفيل، أنها من شواهد النبوة ودلالاتها، قال الماوردي رحمه الله تعالى: “ولما دنا مولد رسول الله ، تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنا، وأشهرها عيانا وبيانا، أصحاب الفيل، وآية الرسول في قصة الفيل: أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل، وبعد موت أبيه يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فكان آية في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى، لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا، ووليدا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا بين عابد وصنم، أو متدين ووثن، أو قائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراد الله من ظهور الإسلام، تأسيسا للنبوة، وتعظيما للكعبة. ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى في جيش الفيل، تهيبوا الحرم، وأعظموه، وزادت حرمته في النفوس، ودانت لقريش بالطاعة، وقالوا أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفا وتعظيما، وقامت قريش لهم بالوفادة والسدانة والسقاية، فصاروا أئمة ديانين وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين”(9).
وقال ابن تيمية: “وكان ذلك عام مولد النبي، وكان جيران البيت مشركين، يعبدون الأوثان، ودين النصارى خير منهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي، الذي ولد في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته”(10).
وقال ابن كثير عندما تحدث عن حادثة الفيل، “كان هذا من باب الإرهاص، والتوطئة لمبعث رسول الله ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدرة يقول: لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم؛ ولكن صيانة للبيت العتيق، الذي سنشرفه، ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد خاتم الأنبياء”(11).
من هنا يتبين أن حادثة الفيل حادثة بليغة المقصد، عميقة الدلالة، ضربت للإنسان نموذجا حيا من انتقام الله تعالى من الظالمين في الدنيا، فلسان حالها يقول: “فاعتبروا يا أولي الأبصار”، فكانت بذلك حادثة مهدت الطريق أمام الرسالة الجديدة، رسالة الإسلام، لتأخذ عالميتها بثبات ويقين.

ذ. صهيب مصباح

——————–
1 – كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
2 – أي تمادت على عدم القيام وهو من الإلحاح.
3 – خلقت الناقة: بركت أو حرنت من غير علة.
4 – أخرجه البخاري رقم ح:2731 وأحمد رقم ح: 4/323.
5 – هو مكان قرب مكة في طريق الطائف مات فيه أبو رغال. معجم البلدان لياقوت الحموي (ج5/ ص470).
6 – البلسان نوع من الطير يسمى الزرازير.
7 – السيرة النبوية لأبي حاتم البستي . بتصرف . (ص 34 ـ 39)، السيرة النبوية لابن كثير (ج1/30ـ 37 ).
8 – أنظر السيرة النبوية للصلابي (ج 1/ ص 52) .
9 – انظر: أعلام النبوة للماوردي ص 185ـ 189
10 – انظر: الجواب الصحيح (ج4 / ص122)
11 – انظر: تفسير ابن كثير (ج 8ص 382)