هَمُّكَ ما أَهَمَّك


طال تفكري في مقولة ابن القيم رحمه الله: «من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل وبأي شغل يشغله».
وساءلت نفسي بأي شغل يشغلنا المولى عز وجل؟ هل قدْرُنا يرقى أن نشغل بخدمة دينه؟ وهل اهتماماتنا ترفعنا مقاما عليا عنده سبحانه؟
لينظر كل منا في يومه وماضيه وغده، ويسأل نفسه عن اهتمامات غده، هل فعلا همنا جليل؟ هل نريد تحقيق الاستخلاف في الأرض وعمارتها؟ ما هو همُّنا الذي أهمَّنا؟
لقد أجلت البصر في ما حولي فوجدت هموما كثيرة تتضارب لكن مُسَمَّاها واحد هو «هم الدنيا»؛ بل هوس الدنيا الملهي عن حقيقتها، حيث غرق الكثير في بحرها العميق فما نجا إلا من ركب سفينة التقوى واستجاب لأمر النبي وهو يقول: «تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم»، فأي هم هذا الذي عكفنا عليه وانشغلنا به حتى أكل كلَّ إيماننا، وصدقت فينا نبوءة رسول الله : «لتأتينكم بعدي دنيا تأكل كلَّ إيمانكم كما تأكل النارُ الحطبَ».
أي هوس هذا الذي جعل همَّنا في الدنيا لا ينقطع وانشغالَنا بها لا ينتهي، وشغلنا فيها لا ينفك عناؤه، وفقرنا فيها لا يطرده غنى أبدا -لأنه فقر نفوس-، وأملنا فيها لا يبلغ منتهاه. وقد أخبرنا النبي أن: «من أشرب قلبه حب الدنيا التاط قلبه منها بثلاثة، شغل لا ينفك عناؤه، وأمل لا يبلغ منتهاه، وحرص لا يدرك عناه، والدنيا طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يأتيه الموت فيأخذه بغتة».
آثرنا حبها لفساد في عقولنا وإيماننا، فأعرضنا عن الهم الجليل وانشغلنا بالهم الذليل.
بحثنا في فلواتها عما يروي ظمأنا، فما وجدنا غير سراب حسبناه ماء، ولما بلغناه لم نجده شيئا، فطال تيهنا.
نسينا حقيقتها التي عرفنا بها الحسن البصري بقوله: هي دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب.
تجاهلنا أنها دار ابتلاء واختبار وأن «الناس معذبون فيها على قدر هِمَمِهِم بها»(ابن القيم)، معذبون بتفريق الشمل، وخوف الفقر، والركض خلف حطامها.
أعرضنا عن تنبيه النبي إلى أن نعيمها لا ينبغي أن يصرفنا عن هم الآخرة، فكان إذا أعجبه شيء منها يذكرنا بالهم الأعظم فيقول : «لبيك إن العيش عيش الآخرة». مرشدا أمته إلى أن النعم الفانية لا ينبغي أن تصرفنا عن العيش الأرغد، عيش الآخرة الذي لن ننعم به إلا إذا أهمنا هم الآخرة في الحياة الدنيا، وتزودنا للباقية، وفنشعل سراجنا من سراج قد أوشك على الانطفاء، ويقيم الله في قلوبنا شهودا نعاين بها حقيقة الدنيا والآخرة.
فهم الآخرة باعثٌ على صعود جبل النفس للاصطفاف في زمرة عباد الرحمان، وباعثٌ على العمل الصالح.
فمن أهمه هم الآخرة فلن تجده إلا لقلبه متعاهدا ولكسبه ناظرا ولنفسه محاسبا؛ فهذا أبو يزيد البسطامي حمله هم الآخرة على محاسبة نفسه فقال: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك. فخلى بنفسه في دار المحاسبة والمعاتبة حتى حررها من ربقة الهوى ورق الطبع.
فأي هم هذا الذي يشعل الهمة، ويخوفنا من صوارفها، ويحدو ببعض السلف إلى طلب النصح من أصحاب الحكمة، بقوله أوصني، فيقول له: «إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل احتوشته السباع والهوام فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فيفترسنه، أو يسهو فينهشنه، فهو مذعور؛ فافعل، قلت زدني، فقال: الظمآن يجزيه من الماء أيسره».
فيدعوه إلى النظر ببصيرته ليحذر من الباطن المشحون بسباع وهوام هموم الدنيا، فهي المهلكة والصارفة عن مقام الانشغال بخدمة السلطان، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لقلبه.
فمن أراد من العمال أن يعرف مقامه عند سيده، فليجعل همه طاعة سيده والامتثال لأمره، وليستجب لداعيه، حيث يقول سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}(الذاريات : 50).

ذة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>