قضية المنهج والبناء الحضاري الإسلامي


قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (المائدة: 48)، يقال: طريق نهج بالفتح يعني بيِّن واضحٌ مستقيمٌ، كما يعني أن تلك الطريق مسلوكة متسعة لا وعورة فيها، مع وضوح القصد من سلوكها.
والمنهج قضية مفصلية في الإسلام، فالإسلام نفسه منهج، بدءا من عالم الأفكار والمعتقدات، وانتهاء بعالم السلوك والآداب، مرورا بالتشريعات والأحكام في كافة مجالات الحياة الإسلامية.
والمنهج في أوجز تعريف: «إطار حاكم، ونظام جامع، وطريق واضح نحو هدف منشود»، ويقابله الفوضى والارتجال والعشوائية.
تجليات معنى المنهج في الحكمة والإرادة والعلم الإلهي:
تتجلى معاني المنهج في أفعال الله تعالى الدالة على أسمائه، التي من أجلها اسمه (الحكيم) فالحكمة الإلهية بارزة في كل فعل إلهي، وفي التنزيل: إنا كل شيء خلقناه بقدر . وفيه وخلق كل شيء فقدره تقديرا وكُلِّفَ المؤمنون بالتفكر في معالم الحكمة الربانية الدقيقة فيما حولهم بدءا بـ وفي أنفسكم وانطلاقا إلى ما في السموات وما في الأرض ليسير المؤمنون المفكرون في بناء حضارتهم وفق «منهج» أو «تقدير»، فينسجم فعلهم مع الطبيعة الكونية القائمة على التقدير الدقيق، فيكون فِعلُهم حكيما غائيا.
وكلمة (بُنِي) في قول النبي : «بُنِي الإسلام على خمس» لفظة لها دلالتها الكاشفة عن معنى عميق في بنية الإسلام، فهو بناء مبني، والدقة في الأبنية أبرز سماتها، وقد قال تعالى عن القرآن الكريم: كتابٌ أحكمت آياته ، وقال لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
نخلص من هذه التجليات إلى أن الأمة في سيرتها الحضارية لابد وأن تكون ذات منهج وخطة واضحة ومحددة في كل مراحل عملها، وعلى كافة مستوياتها، إلى أن يكون المسلم الفرد سائرا وفق خطة ومنهج يرقى به إلى مستوى الفرد الإيجابي الفاعل.
المنهج فريضة غائبة في حياتنا حاضرة في حياة أسلافنا.
كانت قضية المنهج حاضرة في عقل وفعل السلف الكرام رضي الله عنهم، كأبرز آثار فهمهم الرشيد للوحي، فقد أدركوا أن الوحي «منهج» في الاعتقاد والإيمان، ومنهج في التعبدات والروحانيات، ومنهج في المعاملات والتصرفات، ومنهج في الأخلاق والآداب، فَهِم ذلك السلف فأقاموا حياتهم وفق (منهج) و(خطة) و(مقصد) في كل الشئون والجوانب، فتجلت معاني المنهجية في كل شيء، فرأينا منهجهم في الفكر، ومنهجهم في التعليم والعلم والعمل، ومنهجهم في الفقه والاجتهاد، ومنهجهم في الحكم والسياسة، وفي الاختلاف والوفاق، وفي البناء والعمران، وفي الحرب والسلم،… إلخ.
ولو سردنا أمثلة لذلك: ففي الفقه مثلا، نرى في كل مذاهبه تجليات (المنهج والمنهاجية)، فقد جسَّد كل مذهب فقهي صورة منهاجية متكاملة في الاجتهاد وفهم الشريعة، فكان لكل مذهب أصوله وقواعده، وكتبه ورجاله، ومصطلحاته ورموزه، ومراحله والمعتمد من مسائله، وهكذا.
وفي جانب العلم والتعليم والتصنيف: نرى أصناف العلوم ومجال كل علم، ومقدماته العشر المنظمة لرؤية التعامل معه، ثم السُّلَّم التعليمي المنظَّم الذي يبدأ بالآلات قبل المقاصد، والمختصرات قبل المطولات، والأيسر قبل الأصعب، وفاقا لما قاله ابن عباس عن العالم الرباني حيث قال عنه: (الذي يُربي النَّاس بصِغَار العلم قبل كِبَاره)، ثم ما يقدم عند الطلب وما يؤخر، فكانوا يقدمون القرآن قبل الحديث، والحديث على غيره، ثم تستمر المنهجية والخطة المحكمة في سيرتها المنضبطة، فطالب الفقه لا يجرؤ على الفُتْيَا حتى يجيزه أشياخه، ولا ينشر كتابه أو مصنفه حتى يعرضه على أهل التخصص فيجيزوه، وهكذا صارت الحياة الإسلامية متناسقة بلا تضارب، متكاملة بلا تعارض، يبني اللاحق فيها على جهد السابق، دون عسر أو تعثر، فخلت الأمة في الغالب الأعم من التناقضات.
فقدمت بذلك الأمة عبر خطتها ومنهاجها الواضح بناء حضاريا نموذجا قصدته الأمم مندهشة من تميزه وإبداعه، خاضعة لحكمه وسلطانه، إن لم يكن السياسي فالعلمي والحضاري اعترافا بفضله وسبقه، وعجزا عن الإتيان بمثله وسبكه.
ولنقرأ «شمس العرب تسطع على الغرب» لزيجريد هونكة نرى مصداق ذلك، وغيره الكثير.
أين المنهج اليوم؟
أعتقد أن من عوامل قصورنا الذاتي اليوم، والذي يعد أحد أسباب تخلفنا الحضاري هو غياب «المنهج» الذي غابت معه الرؤية، والخطة، وغلبت العشوائية والارتجال، فتبعثرت الجهود وضاعت الأوقات، وأهدرت الأموال، وأصبحنا نتحرك في أماكننا لا نبرحها، في ظل عالم لا يتحرك إلا بالعلم والخطط الاستراتيجية والاستشراف المستقبلي.
فلو بحث الباحثون عن المنهج في حياة الأفراد والأسر، وفي جوانب التعليم والتعلم، وفي الآفاق السياسية والحكمية، وفي مجال التعاون العربي الإسلامي… إلخ، لأدرك بسهولة ظاهرة ضعف أو فقدان (المنهاجية) التي عمادها العلم والتخصص، والمقاصد والغايات.
الطريق إلى المنهاجية في الحياة الإسلامية.
إن صناعة المنهج بمعناه الذي سبق آنفا والذي يمثل أطرا جامعة، وخططا قاصدة، وبرامج واضحة، وآفاقا مستقبلية واعدة، على كل المستويات الفردية والجماعية في كافة المجالات هو أول الخطوات نحو انطلاقة حضارية بين أمم الأرض، والطريق إلى تحقيق المنهج يتمثل في خطوات كثيرة منها:
- «تقصيد العلوم» وذلك على مستوى المناهج والتعليم، بحيث تكون دراسة كافة العلوم وبخاصة الشرعية منها، واضحة المقاصد محددة الغايات أمام عقول دارسيها.
- وضع رؤى واضحة لكافة مؤسسات الحياة الإسلامية، وإيجاد تناسق وتكامل بين هذه الرؤى، وتوجيه الجماهير نحو فهمها.
يتبع

د. أحمد محمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>