قراءة في كتاب – “النـبـأ العـظيـم : نـظـرات جـديـدة في القـرآن” لـمحمد عبد الله دراز


كتاب “النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن”، لمؤلفه محمد عبد الله دراز ابن صاحب الشرح على الموافقات للشاطبي عبد الله دراز، اعتنى به وخرج أحاديثه عبد الحميد الدخاخني، ونشرته دار طيبة للنشر والتوزيع في طبعته الثانية سنة 2000م.
نظرات في الكتاب:
الكتاب الذي بين أيدينا، عنونه صاحبه بـعنوان أساسي “النبأ العظيم” وعنوان فرعي: “نظرات جديدة في القرآن”.
ولعل العنوان الأول ينبئ عن الأهمية القصوى لموضوع الكتاب، كما يتضمن إشارة إلى ما يريد الكاتب إيصاله إلى قرائه من كون القرآن الكريم هو نبأ عظيم ولا يمكن إلا أن يكون عظيما؛ فهو نبأ بما تعنيه كلمة نبأ من معنى الأهمية الكبرى للخبر الذي يحمله، وأي خبر أعظم من ذلك الذي يخبر عن الله تعالى ويخبر عن هذا الإنسان؛ عن خلقه وخالقه، عن أصله ووظيفته، عن حاله التي ينبغي أن يكون عليه ومآله الذي هو سائر إليه، وما إلى ذلك من حقائق هذا الكتاب الكريم التي غفل عنها كثير من الناس في زمان المؤلف وفي زماننا هذا.
فالمؤلف إذن، حاول بهذا العمل العلمي المتين أن يلفت نظر الناس عامة والمتخصصين خاصة إلى نواحٍ عدة من عظمة القرآن الكريم، وهذا العمل –في نظر المؤلف- هو عبارة عن “نظرات جديدة في القرآن”، كما هو العنوان الفرعي المشار إليه آنفا. وجِدَّتُه إما أن تكون من الناحية المنهجية، وإما أن تكون من الناحية المعرفية، وإما أن تكون من ناحيتيهما معا، وهو أمر لا يمكن الجزم به إلا بعد الغوص في أعماق الكتاب.
بدأ المؤلف كتابه هذا بمقدمة يبين فيها ظروف التأليف ومراحله، ودواعيه، ومنهجه، وما يتطلبه من القارئ له؛ من “فطرة سليمة وحاسة مرهفة ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق في شأن هذا القرآن”.
فالكتاب في أصله هو عبارة عن محاضرات ألقاها المؤلف على طلابه بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر، ليقدر الله بعد ذلك أن “يضيف إليها خليّات أخر، اكتمل بها قوامه، وأخذ بها أهبته للخروج من نطاق الثقافة الجامعية إلى فضاء الثقافة العالمية، لكي يتحدث إلى كل عقل واع ناقد، لا يأخذ ما يأخذ إلا على بصيرة وبينة، ولا يذر ما يذر إلا على بصيرة وبينة، وإلى كل وجدان تجريبي ذائق، لا يكتفي بالخبر عن المعاينة؛ ولا يستغني بالوزن عن الموازنة”.
وعن مقاصد الكتاب ومنهج تأليفه يقول المؤلف: “أردت أن أنعت كتاب الله بحليته وخصائصه، وأن أرفع النقاب عن جانب من الحقائق المتصلة به، وأن أرسم الخطة التي ينبغي سلوكها في دراسته. وقد راعيت في أكثر هذه البحوث شيئا من التفصيل والتحليل، وشيئا من التطبيق والتمثيل، فلم أكتف بالإشارة حيث تُمْكِنُ العبارة، ولا بالبرهان إذا أمكن العيان”.
ثم إن الكتاب بعد المقدمة جاء في ثلاثة أبحاث أساسية؛ جعل الأول لدراسة حد القرآن وبيان الفارق بينه وبين غيره من الأحاديث القدسية والنبوية، وكذا بيان سر تكفل الله بحفظه دون ما سواه من الكتب السماوية.
وجعل الثاني في بيان مصدر القرآن الكريم، مبرهنا على كونه من الله ، مستثمرا -في بناء براهينه وحججه- علاقةَ رسول الله بالوحي؛ حين عاتبه، أو أقره، أو قوَّمَه وأدبه، أو أرشده وهداه، أو فتر عنه حين انعدام مقتضاه، أو لحكمة يعلمها الله جل في علاه.
وقد قسم هذا البحث إلى أربع مراحل؛ الأولى لبيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاء ذاتيا من نفس محمد ، مستدلا على ذلك بطبيعة المعاني والحقائق القرآنية، ممثلا لها بما يناسب من آيات الذكر الحكيم، غير مغفل لبعض جوانب السيرة النبوية وأحداثها التي تشهد للقضية المستدل عليها، فجمع بذلك بين الشواهد الداخلية لمصدر القرآن من القرآن والخارجية من السيرة النبوية. وهو منهج سلكه في الكتاب كله.
وأما المرحلة الثانية فقد جعلها في بيان أن محمدا لا بد أن يكون قد أخذ القرآن عن معلم، فبحث في هذه المرحلة عن هذا المعلم في الأوساط البشرية؛ بحث عنه بين العرب الأميين فأثبت أنه “لا يكون الجهل مصدرا للعلم”، وبحث عنه بين علماء عصره فوجد أنه صلى الله عليه وسلم لم يَلْتق بهم إلا قليلا، وأثبت بالدليل القاطع أنه لم يَتَلَقَّ عن أحد منهم أبدا، بل إن موقفه منهم بعد بعثته، كان “موقف المصحح لما حرفوا، الكاشف لما كتموا”.
ثم بعد هذا يتابع المؤلف تفنيد زعم من زعم أن لمحمد معلما من البشر ليثبت في النهاية بالحجج العقلية والمنطقية، والأدلة النقلية والتاريخية أنه إنما علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى (النجم:5-10).
ثم بحث في المرحلة الثالثة في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن، فتحدث عن ظاهرة الوحي وحلل عوارضها التي كانت تظهر على رسول الله حين نزول الوحي عليه كتَفَصُّد جبينه عرقا، وبروك الراحلة به وغيرها، مستأنسا –في الاستدلال- بما كشفه العلم في العصور الحاضرة؛ من الاتصالات الهاتفية والتنويم المغناطيسي وما سواهما من العجائب.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة فقد خصصها المؤلف للبحث في جوهر القرآن نفسه عن حقيقة مصدره؛ فتحدث عن قضية إعجازه لغويا وعلميا وتشريعيا، مستقصيا كل الشبه الواردة حول هذه القضية مع تفنيدها ودحضها واحدة تلو الأخرى بمنهج جدلي قويم.
ثم تحدث في نهاية هذه المرحلة عن البيان القرآني لفظا وتأليفا وخصائص؛”سواء في الفقرة التي تتناول شأنا واحدا، أو في السورة التي تتناول شؤونا شتى، أو فيما بين سورة وسورة، أو في القرآن جملة”.
ثم ختم الكتاب بالحديث عن “السياسة الرشيدة لدراسة النسق القرآني”؛نظريا، وتنزيلا على سورة البقرة في بحث سماه: “نظام عقد المعاني في سورة البقرة”؛ جعله في مقدمة وأربعة مقاصد وخاتمة.
والمؤلف في كل ذلك يكتب بلغة رصينة، وعبارة سلسة ماتعة لا يمل قارئها، يطبعها طابع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف؛ إذ كثيرا ما يستعمل المؤلف المصطلحات والمفاهيم القرآنية والحديثية في التعبير عن مراده.
وأخيرا فإن هذا الكتاب يقف أمام كل باحث عن الحقيقة ليرده إليها راشدا، وأمام كل معاند يتَّبِعُ الشبهات ويثيرها مفندا لها وداحضا، وأمام كل مسلم غافل منبها إياه إلى العودة إلى هذا النبع الصافي والمعين الوافي.

محمد أمين الخنشوفي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>