ركوب رواحل العزم


بلغ الصالحون المقربون عنان العناية والقبول، وأسهروا العيون وأتعبوا الأبدان، واشرأبت أعناقهم إلى الأفق النير، فلم يرضوا بسفاسف الأمور بل راموا معاليها، شرفت مطالبهم وعلت هممهم، فركبوا سنام رواحل العزم متزودين بالصبر والتوكل.

جالت أبصارهم وقلوبهم في كتاب ربهم مستبصرة معنى العزم فعلمت «أنه الجزم بالفعل وعدم التردد فيه، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه». وعلموا أن العزم المحمود في الدين هو:«العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة، وقوامه الصبر على المكروه وباعثه التقوى، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه».

فراكب رواحل العزم خليق به أن تكون همته مصروفة الى ما يحصن به نفسه من كل ما يدنسها من لوازم المنكر والفحش، وكلما علت همته بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصَدَتْها الآفات من كل مكان، فإن الآفات قواطع وجواذب، فهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوانُ فلَاحِه، وسفول همته عنوان حرمانه.

وعلى قدر علو الهمة تنال الحياة الطيبة، والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلبا.

وكلما علت الهمة طردت القواطع والصوارف عن السفر الى الله جل وعلا وإرادته، فيقف العازمون مع أمر الله جل جلاله ينفدوه رغبا ورهبا، لا يقطعهم عن مولاهم شيء البتة، فقد فهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل وشمروا للسير في سواء السبيل، فالناس مشغولون بالفضلات، وهم في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح.

لم يتركوا رحى النفس فارغة احترازا من أن يقذف فيها الشيطان والهوى الحب الفاسد فيفسد الطحين، لعلمهم أن «الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إذا وجد الرحى فارغة من الحب، وقيّمها قد أهملها وأعرض عنها، فحينئذ يبادر الى إلقاء ما معه فيها».

فتعهدوا نفوسهم بالصلاح فسبقوا الناس في السير… فلسبقهم لم يوقف لهم على أثر في الطريق، ولم يعلم المتأخر عنهم أين سلكوا؟ والمشمر بعدهم قد يرى آثار نيرانهم على بعد عظيم كما يرى الكوكب، ويستخبر ممن رآهم أين رآهم».

رحيق القرب.

تعلم العازمون بتأملهم من النحل التنقل بين الأزهار لجمع الرحيق لجودة العسل، فطافوا على جميع أنواع الطاعات ورشفوا من أشرفها وأجودها أجرا، و«لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيعرفون به دون غيره من الأعمال لأن عبوديتهم لله تعالى لا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها». بل لهم حظ وافر من كل عبادة، وأفضل العبادات لديهم العمل على مرضاة الله تعالى في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فمنهج صاحب العزم «إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه… فهو لا يزال منتقلا في منازل العبودية، فكلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العُبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، ما فيه لذتها وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه». فهو لله وبالله ومع الله.

دة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>