معنى الحبوط في المعاجم:
يدور معنى (الحبوط) في المعاجم على البطلان والفساد؛ قال ابن فارس: ((حبط) الحاء والباء والطاء أصل واحد يدل على بطلان أو ألم، يقال: أحبط الله عمل الكافر؛ أي أبطله)(1).
قال الأزهري: (حَبط: قَالَ اللَّيْث: الحَبَطُ: وَجَعٌ يَأْخُذ البَعِيرَ فِي بَطْنِه من كلأ يَسْتَوْبِلُه، يُقَال: حَبِطَت الإبلُ تَحْبَط حَبَطاً، قَالَ: وَإِذا عَمِل الرجلُ عملا ثمَّ أفْسدهُ قيل: حَبِطَ عَمَلُه، وأَحْبَطه صاحِبُه (..)
قلت: وَلَا أرى حَبْطَ العَمَلَ وبُطْلاَنَه مأخوذاً إِلَّا من حبَط البَطْن: لِأَن صَاحب الحَبط يَهْلِك، وَكَذَلِكَ عَمَل المُنافق والمُشْرِك يَحْبط)(2).
وقال الجوهري: (حَبِطَ عملُه(..): بطَلَ ثوابه. وأَحْبَطَهُ الله تعالى)(3).
الحبوط في القرآن الكريم:
وردت مادة (حبط) في القرآن الكريم في ستة عشر موردا، مرتبطة بالعمل في كل الموارد، مختصة به دون غيره؛ إلا ما ورد من انضمامها إلى (الصنع) –وهو مرادف للعمل كما هو واضح من معناه ومن السياق- في قوله تعالى: وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (هود:16)، فيكون الحبوط مختصا بالأعمال واقعا فيها مشكلا بارتباطه بها (ضميمة حبوط العمل) وهو موضوعنا، التي من آيات مواردها؛ قوله تعالى:
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (البقرة:217).
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (المائدة:5).
وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأَنعام:88).
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (الكهف:105).
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم (محمد:27 – 28).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (الحجرات:2)
وينظر بقية الآيات في السور: آل عمران:21 – 22، المائدة: 52 – 53، الأَعراف: 147، التوبة:17-68-69، هود:15 – 16، الأحزاب:18 – 19، الزمر:65، محمد:4-9-32).
ومعنى الحبوط عند المفسرين غير مختلف عما رأيناه عند أهل اللغة، فهو دائر على؛ ذهاب الحسنات، وبطلان الأعمال الصالحة، وفسادها(4)، وأن لا يكون لما عملوا ثواب.
قال الطبري: (حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ: بطلت وذهبت، وبُطُولِهَا: ذهاب ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والاَخرة)(5).
(أما في الدنيا فذهاب التعظيم والإجلال والثناء الحسن الذي يستوجب بالخير والدين عند الناس، فإذا ارتد عن الإسلام حبط ذلك كله، وصار على أعين الناس أخف من الكلب والخنزير، وأما حبطه في الآخرة فذهاب ثواب أعماله)(6)؛ بحيث لا تنفعه ولا تكون سببا في فكاكه من العذاب؛ فقد (صارت بمنزلة ما لم يكن لإيقاعهم إياها على خلاف التوجه المأمور به، لأن إحباط العمل وإبطاله، عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب وليس المراد أنهم استحقوا على أعمالهم الثواب، ثم انحبط) (7)، بل لم يكن لها من أثر بدءا وانتهاء.
وإذا نظرنا في الشجرة المفهومية التي تبين مفهوم موضوعنا نجد عددا من المفاهيم القرآنية تشكل بتجاورها مع العمل ضمائم أخرى له، لكنها لا تشغل مساحة كبيرة، أو تتردد ترددا كبيرا كما هو الحال بالنسبة لمفهوم (الحبط)، إلا أنها من حيث دلالتها متقاربة حتى إنك لتجد عددا من المفسرين يفسر بعضها ببعض؛ من ذلك:
أ – تضييع الأعمال: وقد جاء منفيا وذلك في قوله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (آل عمران: 195)، ومعنى (الإضاعة: الإهلاك. ضاع الشيء يضيع ضياعا: إذا هلك)(8) وعدم إضاعتها معناه: أنه لا يبطلها ولا يحبطها(9)، بل يجازيهم ويثيبهم عليها(10) و (يُوَفّي كل عامل بقسط عمله، من ذكر أو أنثى)(11).
قال الفخر الرازي: (اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى، بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل، والإضاعة عبارة عن ترك الإثابة فقوله: لا أضيع نفي للنفي فيكون إثباتا، فيصير المعنى: أني أوصل ثواب جميع أعمالهم إليكم(12).
ووردت كلمة الحبوط على نحو قريب جدا في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف:30).
ب – إضلال الأعمال: وهذه الضميمة هي الأقرب إلى ضميمتنا، وقد جاءتا في سياق واحد كما يظهر في إحدى الآيات الآتية:
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (محمد:1).
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (محمد:4)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (محمد:8 – 9)
ومعنى إضلال الأعمال عدم قبولها وإبطالها وحبطها. قال مقاتل: (أبطل أعمالهم التي عملوا في الدنيا لأنها كانت في غير إيمان)(13).
وقال الطبري: (جعل الله أعمالهم ضلالاً على غير هدى وغير رشاد، لأنها عملت في سبيل الشيطان وهي على غير استقامة)(14).
وقال الماوردي في أحد أقواله: (أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق)(15).
وقد قال في المومنين: فلن يضل أعمالهم وقال في الكافرين وأضل أعمالهم فما أوجبه للكافرين أوجب ضده للمومنين؛ بمعنى أنه يجزيهم على أعمالهم ويثيبهم عليها ويتقبل حسناتهم…
ج – إبطال الأعمال-أو بطلانها-: وذلك في:
قوله تعالى في سورة محمد الآية 33: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ؛ (بمعصيتكم إياهما، وكفركم بربكم ثواب أعمالكم فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح)(16).
وقوله تعالى: وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (هود:16).
وقوله جل جلاله في سورة الأَعراف 117 – 119: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( من السحر أي: ذهب وهلك واضمحل(17).
وجاء هذا المعنى في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى (البقرة:264)، على تحديد نوع العمل الذي هو الصدقات، وما يبطله؛ وهو المن والأذى.
ترة الأعمال: وذلك في قوله تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (محمد:35)، (يعني: لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً، يقال: وتَرْتَني حقي يعني: بخستني فيه، وقال مجاهد: لن ينقصكم، وقال قتادة: لن يظلمكم)(18).
وخلاصة القول في الموضوع؛ أن الإنسان قد يعمل الأعمال الكثيرة، لكنه لما تمس حاجته إليها لا يجدها حاضرة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا (آل عمران:30)؛ ذلك بأن الله يذهبها ويمحق بركتها وثوابها، فتكون كالمعدومة من الأصل، لما شابها وداخلها من أسباب الحبوط والبطلان. وقد وردت آيات عدة في هذا المعنى متوعدة القوم بعاقبة وبيلة وثبور كثير رغم أعمال قدموها، وطاعات تقربوا بها، وتفنن القرآن الكريم في الإنباء عن ذلك بأساليب بالغة في الدلالة على بعثرة هذه الأعمال، وإتلافها بما لا يدع أي بصيص أمل في الحصول على بقية منها للانتفاع به؛ قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيد (إِبراهيم:18). تصوير بديع لمشهد الرماد والريح تعصف به وتذروه في الأرض؛ يستعير الله منه ما يفعله بأعمالهم تيئيسا لهم وقطعا لآمالهم. وأكثر منه فعله جل جلاله بأعمالهم كما أخبر بذلك في قوله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (الفرقان:23)، فذرات الهباء المتطاير في الأجواء من حولنا أدق من الرماد بحيث لا نراها بيسر وسهولة، فكذلك يجعل الله أعمالهم، وهذا زيادة في التيئيس والتخويف. وأكثر من التصويرين البديعين المتقدمين ما حكاه الله تعالى بقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (النور:39)، والسراب -لا هو كالرماد ولا كالهباء الموجودين حسا وإنما هو- انعكاس للشمس يتراءى من بعيد في واضحة النهار يظن أنه شيء؛ فإذا به تخيل لا حقيقة له. ذاك شأن أعمال الكافر، وذاك حاله في القيامة كما يصوره ربنا في هذا التصوير البديع البليغ.
هذا باختصار ما تيسر عن مفهوم الحبوط، وعن بعض المفاهيم التي تدور في فلكه، أو هي من شجرته؛ على رجاء أن نخصص له حلقة أخرى نتناول فيها أسباب حبوط العمل أو محبطاته بمشيئة الله تعالى وعونه وقوته.
د. خالد العمراني
———–
1 – معجم مقاييس اللغة؛ لأبي الحسين أحمد بن فارس /حبطا
2 – تهذيب اللغة لأبي نصور محمد الأزهري /حبط.
3 – الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية:لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري/حبط
4 – ينظر تفسير بحر العلوم للسمرقندي، وتفسير النكت والعيون للماوردي، وتفسير الجلالين للجلال المَحلِّي والجلال السيوطي بمناسبة آية البقرة 217
5 – جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري. بمناسبة آية البقرة 217
6 – تأويلات أهل السنة للماتريدي بمناسبة آية البقرة 217
7 – مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي
8 – مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي بن الحسن الطبرسي لطبرسي بمناسبة الآية الكريمة
9 – ينظر معالم التنزيل للحسين بن مسعود بن محمد البغوي،
10 – ينظر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي الحسن، علي بن محمد بن علي الواحدي،
11 – تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء ابن كثير
12 – مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير) للفخر الرازي
13 – تفسير مقاتل لأبي الحسن، مقاتل بن سليمان
14 – جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري بمناسبة اّلآية
15 – تفسير النكت والعيون للماوردي
16 – جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري بمناسبة اّلآية
17 – تفسير بحر العلوم لأبي الليث، نصر محمد بن بن أحمد، السمرقندي،
18 – نفسه