عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى يوليو1914م كانت كل من روسيا وفرنسا وبريطانيا ضمن تحالف مشترك في مواجهة ألمانيا والنمسا والخلافة العثمانية ،ثم انتهت الحرب بهزيمة المعسكر الأخير وخروج الخلافة العثمانية مهيضة الجناح ومنهكة بفعل العديد من الأدواء أخطرها معاول التفكيك الداخلي المسنودة خارجيا. والتي سرعان ما نجحت في الانفصال عن مركز الخلافة التي ظلت تمثل الكيان السياسي الجامع للشعوب الإسلامية. ثم كان ما كان مما هو معروف ومشهور عن حركة الثورة العربية والدعم البريطاني لها في مواجهة العثمانيين ثم الغدر بها لاحقا.
وتقاسم الحلف الروسي البريطاني الفرنسي تركة “الرجل المريض”، حيث استمرت روسيا في قضم وابتلاع الأقاليم الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز، وفيما يتعلق بالمشرق العربي قامت فرنسا وبريطانيا بشكل سري في 16 مايو 1916م بعقد اتفاقية “سايكس- بيكو” (وهما على التوالي: مارك سايكس وزير خارجية بريطانيا و جورج بيكو وزير خارجية فرنسا) وهي الاتفاقية المشؤومة التي نصت على تقسيم منطقة المشرق العربي إلى مناطق نفوذ للقوتين الاستعماريتين. وتم بذلك تكريس الاحتلال والتجزئة وتهيئة التربة للوجود الصهيوني وبقية الأذرع والملحقات. وفي ظل التحولات الاستراتيجية العميقة التي قدح شرارتها الربيع العربي وما يرمز إليه من تحرر ونهوض بدأ التخطيط الماكر للقوى الاستعمارية في إعادة ترتيب أوراقه في ظل التغيرات المتسارعة التي تسببت في انهيارات مريعة للاستحكامات السياسية والأمنية والفكرية التي أقيمت خلال العقود العشرة الماضية.
وكان الأكثر إزعاجا لهذه القوى الاستعمارية يتمثل في أن التغييرات الجديدة بالبلاد العربية تنزلت في سياق حراك شعبي واع يرفع مطالب مشروعة بالحرية والكرامة والتنمية والأخطر أنه يتزامن مع تجاوز تركيا –مهد الخلافة– لمرحلة الفشل التنموي والاستلاب الحضاري، مما يشي بإمكانية تجاوز شعوب المنطقة إرث قرن من الضياع والتيه.
وفي مواجهة هذا الواقع الجديد ظهرت الثورات المضادة وأعيدت الحياة لتنظيمات العنف الأهوج المريب وتم الإجهاز من قوى الاستعمار والطغيان والإرهاب على الديمقراطية الوليدة وهي بعد لم تبلغ سن الفطام.
وبعد أن تأكد للجميع أن النظام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى في طريقه للانهيار، قامت هذه القوى وبشكل متزامن بتمزيقه أكثر؛ كل على طريقته الخاصة، ففي سياق مريب أعلنت جماعة صغيرة سرعان ما تضخمت بفعل أكثر من فاعل عن قيام خلافة وهمية، وحطمت فعليا حدود سايكس-بيكو بين العراق وسوريا، ومن جهة أخرى قامت القوى الأجنبية تحت ذرائع محاربة الإرهاب وغول “الخلافة الوهمية” بتكثيف وجودها العسكري وتشجيع قيام جيوب وكيانات لفرض إعادة رسم حدود المنطقة من جديد في اتجاه تجزئة المجزء وبروز كانتونات طائفية وإثنية من أجل تكريس الهيمنة والنكاية بأحلام شعوب المجال العربي الإسلامي.
وفي ذكرى مرور قرن على اتفاقية سايكس–بيكو، تلبد سماء المنطقة غيوم التقسيم والتجزئة المفروضة بقوة القهر الاستعماري، حيث عادت الولايات المتحدة الأمريكية –التي ورثت دور بريطانيا السابق- إلى المنطقة بعد حديث عن انسحاب تدريجي منها، ثم تبعتها وسط ترحيب غربي روسيا في شكل تدخل عسكري فج فاجأ أصحاب النظر الاستراتيجي القاصر ، وبقي مقعد فرنسا شاغرا، حتى جاءت هجمات باريس الدامية، لتجد فرنسا المسوغات الكافية لإعلان الحرب على الغول الوهمي وتبرر تراجعها عن مواقفها السابقة، وتبدأ في تحريك أساطيلها البحرية والجوية في اتجاه شرق المتوسط.
وبذلك تكتمل أضلاع مثلث قوى التقسيم، من هنا يمكن أن نفهم تصريح الرئيس الفرنسي هولاند عن زيارته لواشنطن وموسكو من أجل تكوين تحالف دولي أكثر فاعلية.
فهل المنطقة على موعد مع تقسيم جديد سيعرف لاحقا -ربما– باتفاق «كيري-لافروف-فابيوس»، ومهما يكن من أمر فإن المنطقة تموج بتحولات عميقة إيجابية في اتجاهها العام وهي أكبر من أي تحديات يمكن أن تفرضها أجندة استعمارية في ظرف استثنائي عابر.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
< إسلام أون لاين سيدي أعمر شيخنا