اللغة العربية لغة القرآن: مباني ومعاني – مناقشة دلالتي الحال والتوكيد.. أو النعت12


الثالثة : أي الحلقة الثالثة من الحلقات الفرعية للموضوع أعلاه تحدثنا في الحلقة الماضية(الثانية)، المحجة عدد 410 عن دلالة الحال “لسانا” في الآية {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا}. وأشرنا في الحلقة الأولى قبلها المحجة عدد 404 إلى أن ابن منظور وصف كلمة “عربيا” بأنها حال، و”لسانا” توكيد. وفي هذا يقول : “وقوله عز وجل : {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} أي مصدق للتوراة، وعربيا منصوب على الحال، المعنى مصدق عربيا، وذكر لسانا توكيد كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا…”(لسان العرب 13/286 ع 2). مادة لسن، وقد أبدينا تحفظنا بخصوص مضامين هذا النص منذ أول تأملنا له في الحلقة الأولى المحجة عدد 338. واستعملنا كلمة توكيد ونحن نناقش بعض المفاهيم احتراما لرأي ابن منظور حتى يثبت عكسه. والآن نناقش هذا النص بما تيسر من القواعد التي يمكن أن تقف عاجزة أمام رأي ابن منظور يرحمه الله تعالى، أو تؤكد ما يزعم أنه ينسجم مع معنى الآية من المباني دون تعسف في التأويل. ومما نلاحظه بخصوص هذا النص الذي أوردنا لابن منظور وهو يناقش معنى هذه الآية {وهذا كتاب…} ويوجهه قوله أ- وعربيا منصوب على الحال. المعنى مصدق عربيا ب – وذكر لسانا توكيدا كما تقول. جاءني زيد رجلا صالحا ح- – وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا، أي مصدق للتوراة. يبدو أن أي واحد من بين هذه العناصر التي تمثل العبارات التي استعملها ابن منظور لوصف الآية : {وهذا كتاب…}الخ ثم شرحها بناء على تلك الأوصاف لا يسلم من النقد البناء الذي يوضح عدم سلامة وصفها من وجهة نظرنا المتواضعة، ومن ثم اختلاف وجهة نظرنا بالنسبة للمعنى الذي تم التوصل إليه. ذلك أننا نرى أن إعراب كلمة : {عربيا} في العنصر أ” حال لا ينسجم مع قواعد اللغة العربية في هذا الباب، أي باب الحال، لا من حيث التعريف، ولا من حيث الأمثلة الفرعية التي تمثل عناصر القاعدة المنضوية تحت التعريف، فإذا سلمنا بإعراب كلمة {عربيا} في الآية حالا، فكيف نسلم بإعراب كلمة {لسانا} قبلها “توكيدا” وهي تفصل بينها وبين الجملة الاسمية التي يفترض أن تؤثر فيها بشكل من الأشكال مع وجود الفاصل، هذا مع العلم أن الحال في مثل هذا التركيب يؤتى بها لتوضيح معنى الجملة قبلها بشكل من الأشكال. ذلك أن قاعدة الحال لها تقسيمات متنوعة تبنى عليها وظائف دلالية متنوعة، نقتصر هنا على ما يناسب المثال الذي نناقشه “الآية” وهو الحال “المؤكدة لمضمون الجملة قبلها بشرط أن يكون هذا المضمون أمرا ثابتا”(النحو الوافي 2/431) والسؤال هو : هل كلمة {عربيا} حسب إعراب ابن منظور لها – تصح مثالا مطابقا لتعريف الحال الذي يقال في تعريفه : “وصف منصوب، فضلة يبين هيئة ما قبله”(النحوالوافي 2/38) بمعنى هل كلمة {عربيا} توضح هيئة الجملة الاسمية قبلها لو قلنا {وهذا كتاب مصدق} عربيا. دون ذكر كلمة : {لسانا} قبلها، هذا وإعراب كلمة {لسانا} توكيد بالنسبة لكلمة عربيا فيه خلل واضح، وهذا ما يؤكده عدم الترتيب بين العنصرين لأن : كلا من الحال والتوكيد وصف أو تابع، ومن شأن الوصف أن يأتي بعد الموصوف، والتابع بعد المتبوع إلا ما استثنى بشروط وضوابط خاصة. هذا والتوكيد في المثال “ب” لا ينسجم مع قاعدة هذا الباب “ذلك أن التأكيد على ضربين : لفظي ويكون بتكرير اللفظ مثل قولك ضربت زيدا زيدا”(ش م ص 3/39). والثاني معنوي ويكون بتكرير المعنى دون اللفظ كقولك: رأيت زيدا نفسه. وجملة الألفاظ التي يؤكد بها في المعنى تسعة هي : نفسه، عينه، أجْمع، أجمعون، جمعاء، جُمع، كلهم. كلاهما، كلتاهما.” ش م، ص 3/40-41. وعلى هذا يتضح أن إعراب كلمة {لسانا} في الآية توكيدا لا ينسجم مع هذه القاعدة فلا هو من التوكيد اللفظي الذي يكون بتكرير اللفظ، مثل ضربت زيدا زيدا، ولا من التوكيد المعنوي الذي يكون بتكرير المعنى دون لفظه، ويكون بأحد الألفاظ العشرة المذكورة، ذلك أن كلمة {عربيا} في الآية ليست إعادة لفظ الجملة قبلها {هذا كتاب مصدق}. هذا بالإضافة إلى أن إقرار هذا الإعراب الذي أعرب به ابن منظور الكلمتين : {لسانا} و{عربيا} لا تحصل منه فائدة التأكيد التي هي : “تمكين المعنى في نفس المخاطب، وإزالة الغلط في التأويل”(ش م ص 3/1-40). إنه خلل في وصف المباني كما هي ترتب عنه غبش في إدراك المعاني. هذا بالنسبة للعنصرين “أ” و”ب”. أما بالنسبة للعنصر الثالث”ح-” فإننا نلاحظ أن ابن منظور التجأ إلى التأويل لاستنطاق عبارة النص وهو قوله مفسرا للآية {وهذا كتاب مصدق} أي مصدق للتوراة” ولا نرى في الآية أية قرينة لغوية تجعل هذا التصديق مقتصرا على التوراة، ذلك أن الكلمة التي فسرها المؤلف بقوله “أي مصدق للتوراة” هي {مُصَدّق} وهي اسم فاعل من فعل “صدّق” مضعفا. والذي تنص عليه القاعدة في مثل هذه الحالة، أن اسم الفاعل يدل على الحال أو الاستقبال، فكيف ينسجم هذا مع المعنى الذي أورده ابن منظور، والحالة أن زمن كتاب موسى قد مضى كما أشارت إليه الآية {ومن قبله كتاب موسى} وبخصوص جريان دلالة اسم الفاعل على فعله المضارع. يقول المبرد : “ولاسم الفاعل في هذا التركيب ثلاثة أحوال من حيث دلالته على الزمن هي : أ- دلالته على الحال أو الاستقبال. ب- دلالته على المضي. ح– احتمال الأمرين بترجيح، ولكل حالة من بين هذه الأحوال علامتها التي ترجح دلالته على زمن دون آخر والذي يعنينا في هذا السياق هو قول المبرد : (1) “فإذا جعلت اسم الفاعل في معنى ما أنت فيه ولم ينقطع، أو ما تَفْعَلُه بَعْدُ ولم يقع جرى مجرى الفعل المضارع في عمله وتقديره” لأنه في معناه.. وذلك قولك زيد آكلٌ طعامك الساعة، إذا كان في حال أكل، وزيد آكل طعامك غدا…”(المقتضب 4/149). ولأجل تحقيق هذه الموافقة بين اسم الفاعل والفعل المضارع يقول :(2) “فاسم الفاعل، قلت حروفه أو كثرت بمنزلة الفعل المضارع الذي معناه(يُفْعَل) تقول : زيد ضارب عمر، كما تقول : زيد يضرب عمرا وزيد مضروب سوطا كما تقول زيد يُضرب سوطا فهذه جملة هذا الباب…”(المقتضب 2/119). ومما يؤكد أن صيغة اسم الفاعل الوارد في الآية {مصدق} يشمله هذا الحكم أي الدلالة على الحال أو الاستقبال بهذه الصيغة التي ورد بها في الآية قول المبرد(3) : “ويكون الفعل على (فعَّل) فيكون مستقبله على (يفعِّل)… وهذه الأفعال الفصل بين فاعلها ومفعولها كسرة تلحق الفاعل قبل آخر حروفه. وفتحة ذلك الحرف من /المفعول نحو قولك : مُكرِم، ومُكرَم، ومقاتِل، ومقاتَل، ومقَطِّع، ومُقطَّع”(المقتضب 1/24). والذي يعنينا من هذه النصوص قول المبرد في النصوص المذكورة بالتوالي : “فإذا جعلت اسم الفاعل في معنى ما أنت فيه 1″ وقوله “فاسم الفاعل قلّت حروفه أو كثرت بمنزلة الفعل المضارع 2″ وقوله (4) :”ويكون الفعل على (فَعَّل)… إلى أن يقول ومُقَطِّع”. فهذه النصوص تتظافر على أن اسم الفاعل في الآية : {مُصَدّق} يحمل دلالة فعله المضارع يُصدق، ونظرا لكونه منونا فإنه يدل على الحال، أو الاستقبال. وأن اسم الفاعل المضاف هو الذي يدل على الحال، أو الاستقبال. وأن اسم الفاعل المضاف هو الذي يدل على الماضي أما احتمال المنون دلالة الماضي فإنه يتوقف على قصد المتكلم، وهو ما لا نستطيع الجزم به بالنسبة للمتكلم في هذا السياق والله أعلم. والذي نراه أن تبقى الآية على ترتيبها ويعرب كل عنصر في مكانه دون تقديم ولا تأويل، وذلك بأن تعرب كلمة {لسانا} حالا، وكلمة {عربيا} نعت، وتفسير ذلك كما يلي : يبدو أن بين الكلمتين تكاملا وترابطا لتحقيق وظيفة دلالية واحدة في نفس السياق. فمفهوم التبعية يستلزم علاقة التابع للمتبوع وهذا ما يفسره ابن يعيش وهو يعرف التوابع بقوله : “التوابع : هي الثواني المساوية للأو ل في الإعراب بمشاركتها له في العوامل… وذلك قولك : قام زيد العاقل، فزيد ارتفع بما قبله أيضا من حيث كان تابعا لزيد كالتكملة له…”(س م ص 3/39) ويتابع قوله وهو يقارن بين التأكيد والنعت : “… لأن التأكيد هو الأول في معناه (أي أن معنى التأكيد يساوي معنى المؤكد) والنعت هو الأول على خلاف معناه، لأن النعت يتضمن حقيقة الأول، وحالا من أحواله، والتأكيد يتضمن حقيقته لا غير فكان مخالفا له في الدلالة..” (ش م ص 3/39). يعرض ابن يعيش يرحمه الله تعالى في هذا النص مفاهيم دقيقة لتعريفي التوكيد والنعت والفرق بينهما. والأسئلة الواردة بخصوص ما نحن بصدد مناقشته هي : أ- هل كلمة “لسانا” -التي أعربها ابن منظور توكيدا- تابع لما قبله {عربيا} كالتكملة – كما يقول ابن يعيش في النص أعلاه!؟ ب- هل كلمة “لسانا” كما أعربت تساوي في معناها معنى المؤكد “عربيا” بناء على هذا الإعراب؟ كما أورده ابن يعيش في النص أعلاه “لأن التأكيد هو الأول في معناه”؟ د- هل كلمة “لسانا” تتضمن حقيقة التأكيد أم النعت كما هو مبين أعلاه؟ يبدو أن أية حالة من بين هذه الأحوال لا تنطبق على الآية كما أعربها ابن منظور. وعليه فالصواب والله أعلم هو أن يعرب “لسانا” حال، وعربيا نعت وهو ما يتناسب مع قول ابن يعيش أعلاه “لأن النعت يتضمن حقيقة الأول الذي هو “لسانا” وحالا من أحواله التي هي عروبته. ويتضح هذا عند ابن يعيش أكثر إذ يقول : “والصفة تبع للموصوف في إعرابه تحليهةوتخصيصا له بذكر معنى في الموصوف..” (ش م ص 3/47). ومما يزيد هذا التلازم بين التابع والمتبوع لأداء وظيفة واحدة ما أورده ابن قيم الجوزية إذ يقول : “إذا كانت الحالة صفة لازمة للاسم كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها… وأما قولهم : جاءني زيد رجلا صالحا. فالصفة وطأت الاسم للحال، ولولا صالحا ما كان رجل حالا، وكذلك قوله تعالى : {لسانا عربيا}(الأحقاف : 12) بدائع الفوائد 2/332 والله أعلم.
-يتبع-

د. الحسين گنوان
————–
1- لسان العرب
2- النحو الوافي
3- شرح المفصل
4- المقتضب
5- بدائع الفوائد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>