قبل حوالي شهر من الآن، أي في 18 دجنبر الماضي كان اليوم العالمي للغة العربية، وهو اليوم الذي أقره المجلس التنفيذي لليونسكو في دورته 190 في أكتوبر 2012م باقتراحه اليوم الثامن عشر من دجنبر يوما عالميا للغة العربية، وجاء اختيار هذا التاريخ لأنه اليوم الذي أقرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1973م اعتبار اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية لها ولكل المنظمات الدولية المنضوية تحتها.
ومنذ 2012 والعديد من الهيئات والمنظمات المدنية وحتى الرسمية ذات الاهتمام اللغوي تحتفل بهذا اليوم بتنظيم أنشطة ثقافية وعلمية للتذكير بمكانة العربية في تاريخ الأمة وحضارتها وواقعها العلمي والثقافي والاجتماعي، وربط ذلك بالمصير: مصير الهوية، ومصير الحضارة، بل ومصير الوجود ككل.
وما إن ينتهي هذا اليوم، أو الأيام القريبة منه حتى تعود عجلة التغريب والتلهيج وتفتيت الكيان لتعمل عملها في كل مكان، وكأن شيئا لم يكن.
صحيح أن تلك الأنشطة لها دور في التوعية، ولكن لا شيء يؤدي فعله كالقرار السياسي. والتجارب على مستوى العالم تثبت ذلك؛ ومن هذه التجارب:
1 – تجربة كوريا: حينما استعمر اليابانيون كوريا منعوا فيها تداول اللغة الكورية، وعند استقلال البلاد سنة 1943 كان أول مرسوم في أول عدد من جريدتها الرسمية، مرسوم يحظر تداول اللغة اليابانية، لغة المستعمر، وتجند الكهول والشيوخ ليلقنوا الأطفال والشباب لغتهم القومية، ولم تنطلق السنة الدراسية إلا باللغة القومية الحاملة للهوية الكورية وحضارتها.
2 – تجربة فيتنام: عندما انتصر هوشيمنه في فيتنام حسم القضية اللغوية في المدارس والجامعات بإلزامية التدريس باللغة الفيتنامية، فرجاه أساتذة كلية الطب إمهالهم بعض السنوات، لكنه لم يمهلهم إلا تسعة أشهر، وحسم أمر اللغة بقرار لا رجعة فيه.
3 – تجربة الصين: في الصين كان أول قرار اتخذه ماوتسي تونغ سنة 1949 بعد نجاح ثورته، هو توحيد اللغة الصينية وإبعاد اللغة الإنجليزية، فكان لزاما على كل صيني أن يتكلم اللغة الخانية (لغة بيكين)، وأن يتخلى عن اللغة الإنجليزية وعن كل اللهجات الأخرى المتداولة في مختلف مناطق الصين، حتى ولو كان بعض هذه اللهجات يرقى إلى منزلة اللسان المنتظم تقعيدا وتنظيرا. ولم تكن صعوبة نظام كتابة اللغة الصينية وتعقُّده حائلا دون تطبيق ذلك.
4 – في فرنسا: في تسعينيات القرن الميلادي الماضي صدر قانون عُرف بقانون استعمال اللغة الفرنسية، واشتهر بقانون «توبون» نسبة لوزير الثقافة والفرنكوفونية «جاك توبون» الذي أعده. ثم عُرف بعد ذلك ب «قانون حماية اللغة الفرنسية»، وتم سن هذا القانون في 4 غشت 1994، وصدر الأمر الرئاسي بتطبيقه في 3 مارس 1995، وقد جاء في فصله الأول ما نصه: «إن لغة الجمهورية طبقا للدستور هي اللغة الفرنسية، وهي الركن الجوهري في السيادة الفرنسية وفي تراثها، وهي لغة التعليم والعمل والمبادلات والمصالح العمومية، ثم هي الصلة الفضلى بين الدول المكونة للمجموعة الفرنكوفونية.
واعتمادا على مبدأ الاستثناء الثقافي تمكن الفرنسيون من إدراج هذا المبدأ ضمن بنود الدستور الموحد لدول الاتحاد الأوروبي، مما أدى بالألمان مثلا إلى الشعور بتدحرج لغتهم على سلم الأولويات، وبذلك يتهمون الاتحاد الأوروبي بالتحيز ضد لغتهم لأن اللجان المنبثقة عن المفوضية الأوروبية كثيرا ما تكتفي باستخدام الإنجليزية والفرنسية.
إن هذه التجارب وغيرها كثير، تدل بشكل قاطع على أن القرار السياسي له الدور الكبير في تفعيل الاستعمال لأي لغة. وإن ما جاء في الفصل الأول من الأمر الرئاسي الفرنسي المشار إليه آنفا ينطبق على اللغة العربية بشكل كبير، فالعربية هي الركن الجوهري لسيادة الدولة؛ لأنها اللغة الرسمية للدولة كما نص على ذلك الدستور، إضافة إلى الأمازيغية، وهي لغة تراثنا الحضاري بدون منازع، وهي التي ينبغي أن تعود –كما كانت في الماضي- لغة التعليم والعمل والمبادلات والمصالح العمومية، وهي الصلة الفضلى والوحيدة بين الدول التي تعتمد العربية لغة رسمية لها، بل وبين سائر الشعوب المسلمة في الدول الإسلامية وغيرها؛ لأن المسلم أينما كان يتوق إلى تعلم العربية وإتقانها؛ لأنها حتى وإن لم تكن لغته القومية فهي لغة دينه وحضارته.
- اقتبست هذه المعلومات عن هذه اللغات من كتاب «الهوية العربية والأمن اللغوي» د. عبد السلام المسدي.
د. عبد الرحيم الرحموني