عطفا على موضوعنا السابق؛ «حبوط الأعمال في القرآن الكريم» المنشور في العدد الأخير لجريدة المحجة، نواصل حديثنا عن هذا المفهوم لاستجلاء ما بقي من مقتضيات البحث مما تمكن منه مادة المفهوم في موارده وسياقاته في القرآن الكريم.
وإذا كنا قد تطرقنا إلى دلالة المفهوم وقلنا: إنها دائرة على بطلان الأعمال الصالحة، وفسادها، وأن لا يكون لما عملوا ثواب؛ فإننا هنا سنحاول -جهد المستطاع- بيان الأسباب التي جعلها الشارع الحكيم مؤدية إلى حبوط الأعمال، أو ما يمكن اختصاره في (محبطات الأعمال)، وهي كما يلي:
أ – الشرك بالله تعالى:
الشرك في اللغة (يَدُلُّ عَلَى مُقَارَنَةٍ وَخِلَافِ انْفِرَادٍ)(1)؛ ومنه سمي من لا يفرد الله تعالى بالوحدانية مشركا، قال الراغب: وشِرْكُ الإنسان في الدّين ضربان:
أحدهما: الشِّرْكُ العظيم، وهو: إثبات شريك لله تعالى. يقال: أَشْرَكَ فلان بالله، وذلك أعظم كفر. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه (النساء 48)، (…)
والثاني: الشِّرْكُ الصّغير، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرّياء والنّفاق المشار إليه بقوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (الأعراف 190)(2)،
وقد ورد في قوله تعالى: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام: 88)، وفي قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الزمر: 65)، وقوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (التوبة: 17)؛ وذلك أن الله تعالى أبى أن يقبل من مشرك صرفا ولا عدلا؛ لأن الشرك مناف للإيمان والإخلاص اللذين هما شرطا القبول؛ قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (الأنبياء: 94)، أما سعي غير المؤمن فلا يكتبه الله جل وعلا ولا يثيب عليه؛ لأنه لم يصاحبه الإخلاص؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه »(3)، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (آل عمران:91).
والشرك المذكور في الآيات هو الشرك الأكبر، لكن يمكن أن يدخل فيه الشرك الأصغر كما هو في الحديث –أي؛ الرياء– وهو أن يعمل المرء عملا لا يبتغي به وجه الله وحده؛ بل يريد مدحا أو حظوة أو إكراما، فهذا عمله (باطل لا ثواب فيه، ويأثم به)(4).
ب – الرِّدَّة عن دين الإسلام:
وهي الانقلاب إلى الكفر بعد الإيمان، قال الراغب: (والارْتِدَادُ والرِّدَّةُ: الرّجوع في الطّريق الذي جاء منه، لكن الرّدّة تختصّ بالكفر (…)، قال تعالى: (…) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ (المائدة: 54)(5).
وقد وردت في قوله تعالى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (البقرة: 217)
قال الطبري: (يقول: من يرجع عن دينه، دين الإسلام، فيمت وهو كافر، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبطت أعمالهم)(6).
الكفر والتكذيب بآيات الله واليوم الآخر:
الكفر في اللغة (هو الستر والتغطية)(7)، ومنه اشتق اسم (الكافر (…)؛ لأنه ستر الحق وغطى عليه)، وهو (على الإطلاق: من جحد الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة، وترك ما لزمه من [شكر] النعمة)(8).
والكذب (خلاف الصدق)(9)، والتكذيب: الإنكار والجحود(10)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (آل عمران: 21-22).
وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (الكهف: 105).
وقال جل من قائل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأَعراف: 147).
والمراد بآيات الله: القرآن، قاله مقاتل(11)، وقال الطبري: (وآيات الله حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته، وما جاءت به الرسل من الأعلام والشواهد على ذلك وعلى صدقها فيما أنبأت به عن ربها)(12).
وكفرهم بها جحودهم ودفع حقيقتها، والتكذيب بها إنكارهم إياها، فالكفر اعتقادا، والتكذيب لسانا.
وقد ذكرت الآيات جملة من العادات والأوصاف تستتبع الأصلين: (الكفر والتكذيب بآيات الله)، وهي: قتل الأنبياء – وقتل الذين يأمرون بالمعروف والعدل من الناس – والكفر والتكذيب بلقاء الآخرة، وكلها استوجبت حبوط أعمالهم وقطع آمالهم في أن تنفعهم ويجدونها حاضرة بين أيديهم.
يتبع
د. خالد العمراني
———————–
1 – معجم مقاييس اللغة؛ لأبي الحسين أحمد بن فارس /شرك.
2 – المفردات في غريب القرآن؛ لأبي القاسم الحسين الراغب الأصفهانى/ شرك.
3 – صحيح مسلم؛ كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله.
4 – ينظر صحيح مسلم بشرح النووي ال» كتاب وال باب المتقدمين.
5 – المفردات في غريب القرآن؛ لأبي القاسم الحسين الراغب الأصفهانى/ رد.
6 – جامع البيان للطبري بمناسبة قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ (البقرة: 217).
7 – معجم مقاييس اللغة؛ لأبي الحسين أحمد بن فارس /كفر.
8 – عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ؛ للسمين الحلبي/ كفر.
9 – معجم مقاييس اللغة؛ لأبي الحسين أحمد بن فارس /كذب.
10 – ينظر الكليات لأبي البقاء الكفوي/ الكذب.
11 – تفسير مقاتل لأبي الحسن، مقاتل بن سليمان.
12 -.جامع البيان للطبري بمناسبة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة 39).