أليس شعرنا المغربي الحديث والمعاصر، بحاجة إلى قراءة عاشقة، والشاعر الناقد محمد بنيس هو من نادى بالقراءة العاشقة. وشعر الرباوي حين تتذوقه يشدك بلغته الحالمة الرشيقة، فتلتهم أسطره الشعرية واحدا واحدا؛ ولعل ما يثيرك في شعر محمد علي الرباوي وأنت تقرؤه حضور الذات الشاعرة، فلا يكاد يخرج كلمة من جبَّته إلا وأضفى عليها شيئا من فيوض الوجدان؛ ولعل الشاعر قد مر به من الآلام ما جعل ذلك ينطبق على شعره، فالشعر عنده سيرة ذاتية، حيث يقول صديقه الشاعر والناقد حسن الأمراني ملخصا تجربة الرباوي الشعرية: «يتميز شعر الرباوي بسمتين أساسيتين، فهو أولا يمثل سيرة ذاتية، لا كالسير، فهي ليست سيرة أحداث ظاهرية فحسب، بقدر ما هي سيرة باطنية عميقة، تنبئ عن التحولات الفكرية والشعورية التي تلبست الشاعر في حياته كلها، أما السمة الثانية فهي الصدق، أن تطلب من الشاعر أن يكتب قصيدة، دون أن يكون لتلك القصيدة حظ من هموم الذات، فكأنما تطلب من السراب أن يسقيك».
لا شك أن الشعر تأريخ للقصيدة وهي تمارسه منذ الطفولة المبكرة إلى أن اشتعل العمر جمرا وعذابا، ويؤكد الشاعر محمد علي الرباوي هذا العمق الوجداني، فيقول: «الشعر عندي سيرة ذاتية، ولأنه كذلك فأنا لا أكتب إلا ما أعيشه، الشعر تعبير عن تجربة، لهذا حين يملأني موقف مؤلم، أو مفرح، فإن ذاتي تختزنه في عمقها».
فالشاعر محمد علي الرباوي كان طموحه منذ الطفولة أن يكون مؤلفا للموسيقا الروحية، حيث لم يتمكن في أن يكون كذلك، كان الشعر بديلا، والشعر موسيقا، والموسيقا إحساس، لذلك كان الشاعر يتحسس ذاته ويعزف على قيثارة وجدانه؛ ولعل الشعر الذي ينبع من أعماق الذات الإنسانية هو ما يجعل منه شعرا متميزا، والقصيدة التي «تنطلق من الذات قادرة بلغتها أن تتجاوز الذات إلى ما هو أبعد». وقد بقي الشّاعرُ وفيّا للموسيقا الشعرية منذ الطلب العلمي بالجامعة، فموضوع دبلوم الدراسات العليا هو: «الشعر العربي المعاصر بالمغرب الشرقي: التناص والإيقاع»، من تأطير الدكتور إبراهيم السولامي، فاس، 1987. أما موضوع دكتوراه الدولة في الأدب العربي فهو: «العروض: دراسة في الإنجاز»، من تأطير الشاعر المرموق الدكتور محمد السرغيني، وجدة، 1994. كما أن الشاعر محمد علي الرباوي من الشعراء المجددين في الإيقاع؛ حيث كان يطعّم الإيقاع العربي بالإيقاع الغربي.
هذا، وإن الشاعر محمد علي الرباوي من الشعراء الذين يسمحون لقصائدهم أن تنهل من الفنون الجميلة كالرسم، والسينما، والمسرح، وبعد أن تستوي القصيدة يأتي «الشاعر الطفل» الذي يسكن الشاعر محمد علي الرباوي فيلونها بهبله الشعري ويؤثثها بأزهار الألم، هذا الألم الذي تسرب إلى أعماق الشاعر من شعر «بودلير»، فيأتي محمد علي الرباوي بإلقائه الرائع فيعطي للقصيدة أبعادها الجمالية والإيقاعية.
لنستمع إلى الشاعر محمد علي الرباوي ملخصا تجربته الشعرية: «كتبت الشعر حين لم أتمكن من تحقيق رغبتي في أن أكون مؤلفا للموسيقا، كان الشعر هو البديل، من خلاله عبرت عما يختلج بأعماقي من مشاعر، وقد جاءني هذا مبكرا، انسجاما مع ميلي الشديد للوحدة وأنا طفل. كان الهاجس الأكبر الذي كان يملأني هو أن تتميز كتاباتي، ولتحقيق هذه الغاية اتخذت لنفسي خطتين: الخطة الأولى هو تنوع قراءتي من شعر بالعربية، والفرنسية، من تأريخ، وعلم اجتماع، وفلسفة، وفنون تشكيلية، الخطة الثانية أن يكون الشعر الذي أكتبه سيرة ذاتية، وهذا معناه أن أكتب انطلاقا من تجربة أمر بها، ذلك بأن التعبير عن التجربة تجعل العمل الشعري متميزا، لأن التجربة التي أعيشها ستكون وجوبا مخالفة عن التجربة التي يعيشها غيري، ولهذا اهتم شعري بذاتي في أفراحها، وأحزانها، وإذا تناولت قضايا الأمة فإني أتناولها في علاقتها بهذه الذات، لأن هذه العلاقة هي ما يجعل الشعر ذا طابع إنساني.
لقد كان محمد علي الرباوي في شعره يجمع بين ذاتية أبي القاسم الشابي، وفكر إيليا أبي ماضي، فشعره يحوطه غموض شفاف يجذب المتلقي بلغة شعرية أنيقة، ومن القصائد الجميلة التي تعبر عن ذاتية الشاعر قصيدة «الفرح المشتعل»:
ذَاتي اشتقتُ إليكِ، اشتقت إلى أَن أَلْتَفَّ صغيراً
بين غلائلك الرطبةِ، أن أسمع عصفوركِ يتلو جهراً ما
يَتَيَسَّر من أشعار العشق اللافح، إن الأحجار الفوارة قد
فصلتني عنك، هي الآن تُطَوِّحُ بي بين أقاليم الحزنِ
تُكَبِّلني ببحار الهم القاتل يا ذَاتي ما عدتِ كَمَا
بالأمس أراكِ: ملامحك المألوفةُ تَهْرُب مني كيف
أُعيدُ إلى عَيْنَيَّ جداولها الرقراقةَ كيف أعيد إِلَيَّ الْقُوَّةَ
حتى أجمع بين الصخر وبينك في مأدبة لا يحضرها
إِلاَّنا أتمردتُ عليك أنا أم أنتِ تمردت عليَّ فهل لي أن
أعرف من منا المسؤول ومن من القاتل من منا المقتول.
وفي المقطع الأخير من قصيدة «مقاطع داخل الذات وخارج الذات» حيث اكتوى بنار الوحدة، فيتغنى بآلام الذات قائلا:
ها أصبحتُ وحيدا في منفى خوفي الرابضِ
في عيني منذُ سنين
وغلائله تورق كل دقيقة
وأنا أتحول نارا غضبى نارا تحرق ذاتي
اه لو أني خارجَ ذاتي
لو أني أملك أن أصنع لي ذاتاً أخرى
تمشي لا ترسم ظلاً فوق شفاه الأرض(…)
حين تصادمت مع الريح ضحكت كثيراً
حيث تعرى جسدي وتكلم جهراً
لغة الطين بكيت كثيراً
وفهمت خبايا الذات كثيراً.
فمعجمُ الوجدان حاضرٌ بقوة في هذا المقطع الشعري: ( وحيدا، خوفي، نارا، غضبى، تحرق، ذاتي، آه، خبايا الذات..).
إن شعر محمد علي الرباوي حين تقترب منه تحس بشيء غامض؛ لكنه غموض شفاف، حلو، إنه وهج الذات، ووجع الوجدان، إنه ذلك الحس الإنساني الذي يتجاوز الذات إلى ما هو أبعد؛ «ذلك أن حرقة الإنسان ووجعه، واحتراق وجدانه هي التي صنعت في كثير من وجوه الفن القوة القادرة على تحويل هذه الشحنات الملتهبة إلى قطع فنية متميزة وربما نادرة..).
وليكن ختام هذه الكلمة مقطعا شعريا، يظهر فيه الشاعر عاشقاً متصوّفاً، وليست تلك المرأة التي تحضر في هذا المقطع الشعري، في آخر المطاف إلا القصيدة التي تسكن ذاته، فيقول:
لماذا اقتحمتِ عليَّ حصوني
وكَانَ الصدى يتمددُ في دَاخلي
قبلَ أَن تَضربي
- ذات يوم- خيامك فيها
لماذا مراراً أموت أنا
حين أشعر أن فؤادكِ
يمخر أمواج حبي المكثفِ
هذا الشعور يعذبني
يكبل خطوي
يمزق ذاتي
فيصبح بحراً عميقاً ..
وهل زورقي يستطيع عبور المحيط.
ذ. محمد حماني