الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين….
أما بعد، فيا معشر المؤمنين والمؤمنات، اتقوا الله ربكم الذي خلقكم ورزقكم، فمن اتقاه وقاه، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .
يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا ، ويقول عز من قائل: ووصينا الانسان بوالديه حسنا”، ويقول سبحانه وتعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ،حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهنا على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك .
ومن الهدي النبوي في الحث على بر الوالدين والإحسان إليهما والنهي عن عقوقهما، ما روي عن عبد الله بن مسعود ، قال: سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال:”الصلاة على وقتها”، قلت: ثم أي؟ قال: “بر الوالدين”، قلت: ثم أي؟، قال: “الجهاد في سبيل الله”، وما روي عن رسول الله ، قال: “رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدَهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة”.ثم قال كذلك: “إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات”.
فهذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وغيرها تدل على عظم حق الوالدين، وهو الحق الثاني بعد حق الله تعالى ورسوله . لذلك أمر الإسلام ببر الوالدين وجعل برهما أحب الأعمال إلى الله جل وعلا بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين، كما أن الله تعالى قد قرن الإحسان إلى الوالدين بعبادته وتوحيده، وفي المقابل فقد حرَّم عقوق الوالدين وجعله من أكبر الكبائر وقرنه بالإشراك بالله، فقال رسول الله : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟…. الإشراك بالله، وعقوق الوالدين…. »، ومن مقتضيات هذه التوجيهات والأوامر:
< الفلاح في الدنيا والآخرة مقرون بطاعة الوالدين: فمن أراد الفلاح والسداد في الدنيا والآخرة، ورغِب في نيل أعلى الدرجات في الجنان -بإذن الله تعالى– فعليه بطاعة الله رب العالمين والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده ونواهيه، ثم عليه أن يبَرَّ والديه ويحسن إليهما، لأن طاعة الوالدين مفتاح من مفاتيح الجنة، ولقد نبهنا رسول الله إلى ذلك لما قال: “الجنة تحت أقدام الأمهات”، وأخرج البخاري أن رجلا جاء إلى رسول الله ، فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال: “أمك”، قال: ثم من؟ قال:”أمك”، قال: ثم من؟ قال:”أبوك”، ومن مظاهر البر المطلوب والإحسان المحمود:
< وجوب تنفيذ أوامرهما وسرعة الاستجابة لتلبية طلباتهما ورغباتهما، والخضوع لهما، واستحضر ما بذلاه من التعب والمشقة في السهر على رعايتك وحمايتك وتعليمك وتربيتك وحفظ سلامتك وصحتك، وإكسائك وإطعامك وإسكانك، وتوفير كل متطلباتك ومستلزمات حياتك، وكل ذلك على حساب طلباتهما ورغباتهما، فكم مرة يجوعان لتشبع، ويعريان لتكسى، ويسهران لتنام.
* الاستماع إلى توجيهاتهما، والعمل بنصائحهما، وطلب استشارتهما، والأخذ برأيهما، وإذا لم يعجبك الرأي أو لم تأخذ به فاحفظ لهما كرامتهما، وناقشهما بلطف ورحمة، حتى تصل معهما إلى الحل المناسب، ولا تغلظ عليهما في القول، أو تُسِئ نحوهما في الفعل، فتُظهرَ الاستعلاء والاستكبار والاستغناء، .. وإياك إياك أن تُظهر لهما أنك متعصب لرأيك، وتَظهرَ أمامهما في صورة الرجل الذي تساوى معهما أو فاتهما في العلم والمعرفة والخبرة والحنكة والتجربة، لأن ذلك سيُفَوت عليك خيرا كثيرا وفضلا كبيرا.
< وجوب تفقدهما وتلمس حاجاتهما: إذ عليك أن تتلمَّس حاجاتهما وتتعرَّف على رغباتهما الداخلية وما يتمنيانه، وبادر إلى توفير ذلك بكل فرح وسرور قبل أن يلجآ إلى الطلب أو التعبير عن الحاجة، وهذا من البر الحقيقي لأنه يشعرهما بأنك تعتني بهما، خاصة إذا كانا من الصنف الذي يتعفف ويتحرج ولا يتجرأ، وكم يشعران بالنشوة والنخوة إذا دخلت عليهما وتقدمت لهما بهدية تسرهما وتدخل عليهما الأنس والسعادة، سواء كان ذلك بمناسبة أو بغير مناسبة، وخاصة إذا صاحب ذلك حديث فيه تلطف وأدب واحترام واختيار لأجمل الكلمات وأعذب العبارات. واجتهد أن تحقق فيك ما أمر به تعالى من الأخلاق الحسنة وما نهى عنه من سيئها عندما قال سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . فهذه صورة غاية في العظمة والجمال والرقي والسمو صورها لنا ربنا سبحانه وتعالى في كيفية التعامل مع الوالدين، وفيها منتهى التذلل والتواضع والخضوع والخنوع، وليس فيها مثقال ذرة من الأنا والكبر وعزة النفس، ومعها الرضا والقبول والطواعية والانقياد والاستسلام، لأنه يطلب منك في حالة الشدة والتوتر ألا تصدر أمامهما أبسط حركة أو أغلظ فعل، وفي نفس الوقت وأنت في تلك الحالة مطالب بالبحث عن الكلمات الرقيقة والعبارات الجميلة، ومطالب بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة وحسن الخاتمة والجزاء الحسن والثواب العظيم مقابل سهرهما على الرعاية والعناية وحسن التربية.
فلنكثر من الدعاء لآبائنا وأمهاتنا في الصلوات وفي كل الأوقات ولنطلب لهما الرحمة والمغفرة أحياء وأمواتا.
فاللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وارض عنا وعنهم، وارزقنا رضاهم، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
إن طاعة الوالدين نور وشعاع وضياء، فهو سبيل السعادة، وطريق النجاة، ومفتاح الجنة، ومنبع الرضا.
عباد الله: استمعوا بإمعان إلى قصة. الصحابي الجليل علقمة،الذي عاش فى عهد النبوة، وكان كثير الاجتهاد في طاعة الله، صلاةً وصوماً وصدقةً، لما اشتد مرض هذا الرجل، أرسلت امرأته إلى رسول الله : إن زوجي علقمة في النزاع فأردت أن أعْلمك يارسول الله بحاله .فأرسل النبي : عماراً وصهيباً وبلالاً وقال: امضوا إليه ولقنوه الشهادة، فمضوا إليه ودخلوا عليه فوجدوه في النزع الأخير، فجعلوا يلقنونه لا إله إلا الله، ولسانه لا ينطق بها، فأرسلوا إلى رسول الله يخبرونه أنه لا ينطق لسانه بالشهادة فقال النبي : هل من أبويه من أحد حيّ؟ قيل يا رسول الله أم كبيرة السن فأرسل إليها رسول الله وقال للرسول: قل لها إن قدرت على المسير إلى رسول الله وإلاّ فقري في المنزل حتى يأتيك.
قال: فجاء إليها الرسول فأخبرها بقول رسول الله فقالت: نفسي لنفسه فداء أنا أحق بإتيانه. فتوكأت، وقامت على عصا، وأتت رسول الله ، فسلَّمت فردَّ عليها السلام وقال: يا أم علقمة أصدقيني وإن كذبتِني جاء الوحي من الله تعالى: كيف كان حال ولدك علقمة؟ قالت: يا رسول الله كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة.
قال رسول الله : فما حالك؟ قالت: يا رسول الله أنا عليه ساخطة، قال: ولِمَ؟ قالت: يا رسول الله كان يؤثر علىَّ زوجته، ويعصيني، فقال رسول الله : إن سخط أم علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة، ثم قال: يا بلال انطلق واجمع لي حطباً كثيراً، قالت: يا رسول الله وما تصنع؟ قال: أحرقُه بالنار بين يديك.
قالت: يا رسول الله ولدي لا يحتمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي. قال: يا أم علقمة عذاب الله أشد وأبقى، فإن سَرَّك أن يغفر الله له فارضي عنه، فوالذي نفسي بيده لا ينتفع علقمة بصلاته ولا بصيامه ولا بصدقته مادُمت عليه ساخطة، فقالت: يا رسول الله إني أُشْهِد الله تعالى وملائكته ومن حضرني من المسلمين أني قد رضيت عن ولدي علقمة. فقال: رسول الله : انطلق يا بلال إليه أنظر هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله أم لا؟ فلعل أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياءاً مني، فانطلق بلال فسمع علقمة من داخل الدار يقول لا إله إلا الله.
فدخل بلال وقال: يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة وإن رضاها أطلق لسانه، ثم مات علقمة من يومه، فحضره رسول الله فأمر بغسله وكفنه ثم صلى عليه، وحضر دفنه. ثم قال: على شفير قبره (يامعشر المهاجرين والأنصار من فضَّل زوجته على أمِّه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحسن إليها ويطلب رضاها. فرضى الله في رضاها وسخط الله في سخطها).
يا رب تجاوز عنا فيما قصرنا في حق آبائنا وأمهاتنا، وارزقنا توبة نصوحا تجاههم ووفقنا لطاعتهم وحسن معاملتهم إرضاء لك وامتثالا لأمرك، ثم محبة فيهم، وتعظيما لشأنهم، وتقديرا لمكانتهم عندك، يارب اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغارا، واغفر لنا معهم ولكافة المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع مجيب الدعوات.
ذ. إدريس اليوبي